الإعادة تونس

- ‎فيمقالات

 

بقلم/ ياسر عبد العزيز

 

في ميدان التحرير بالقاهرة، سُئل أحد الثوار إبان ثورة يناير عن التظاهرات وأسبابها، وهل يمكن أن تسقط نظام مبارك البوليسي القوي؟ فاستعار الشاب عبارة من فيلم كوميدي للفنان أحمد حلمي، وأجاب: “الإجابة تونس”، في رد عبقري ومختصر ومستشرف، وقد كان.

 

ومن يومها، يستخدم المصريون العبارة للترميز لكل عمل يسعون لتحقيقه، ويؤكدون حتمية نجاحه، وبعد تظاهرات تونس التي دعا إليها عدد من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها الشبكة التونسية للحقوق والحريات، ولعل حالة القبول الشعبي الكبير للدعوة، مردها إلى الحالة الحقوقية السيئة التي تعيشها البلاد منذ وصول قيس سعيّد إلى سدة الحكم، وانقلابه على كل مكتسبات الثورة، وترسيخه هذا الانقلاب على الحقوق والحريات بالمرسوم رقم 54 لسنة 2022، الذي أثار جدلا واسعا في حينها، وهو باختصار معاقبة كل من يخالف رؤيته علنا، ولو بمنشور على وسائل التواصل الاجتماعي، بالسجن لمدة خمس سنوات، والهدف بطبيعة الحال تكميم الأفواه، وهو في ذلك لم يكن بدعا من الدكتاتوريين، فقد سبقه قانون التظاهر لتكميم الأفواه وتصفية الثوار في مصر.

 

لعل حالة القبول الشعبي الكبير للدعوة؛ مردها إلى الحالة الحقوقية السيئة التي تعيشها البلاد منذ وصول قيس سعيّد إلى سدة الحكم، وانقلابه على كل مكتسبات الثورة.

المرسوم 54 التونسي سيئ الذكر، إنما هو جريمة إرهاب مكتملة الأركان، يلاحق به كل من يتوجع أو يشتكي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والسياسية، ويسمح في المقابل لقيس سعيد أن يفعل بالبلاد ما يحلو له، متلبسا في ذلك بروح الديكتاتوريين “العظام”، ومستحوذا وحده على الإعلام، ومدعوما في ذلك من نادي الثورات المضادة بالمال والمعلومات وخبرات القمع والمكايد، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، بسبب السياسات الرعناء لديكتاتور لا يُري بلاده إلا ما يرى، لكنه لا يهديهم سبيل الرشاد.

 

وصل قيس سعيّد في 2019 إلى رئاسة تونس من خلال انتخابات، حشر فيها الشعب بين مرشح للنظام الذي ثار عليه متمثلا في نبيل القروي وبين سعيّد المستقل، بعد أن استطاع نادي الثورات المضادة أن يشيطن الأحزاب، وهي ساعدته على ذلك بأدائها الضعيف، ليصل بخطته إلى أن يختار الشعب الخيار المجهول للمستقل الذي بنى دعايته على نيته القيام بالإصلاحات الدستورية، ويرسخ العدالة الاجتماعية، ويحارب الفساد، ومن ثم بناء نظام سياسي يعتمد على منح سلطات أكثر للمجالس المحلية وتقليل النفوذ المركزي للدولة، وقد كان عكس ما وعد؛ فانفرد بالسلطة، وجمّد البرلمان، وخرق الدستور الذي أقسم على الحفاظ عليه، وعلى مؤسساته، واستأثر بالتشريع، وقمع الحريات، وتجاهل الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.

 

الحالة التي تعيشها تونس، وتعيشها بلاد ثورات الربيع العربي، وإمعان نادي الثورات الربيع المضادة في إذلال شعوب هذه الثورات، إنما هو دافع لا شك على أن تشتعل جذوة الثورات في المنطقة من جديد.

قنن سعيد منظومة الحكم الجديد الذي بات على رأسه، بأن أعد دستورا جديدا في 2022 دون إشراك القوى السياسية والمدنية، ما يعني أن الرجل خطط من قبل لهذا الانقلاب، أو دعونا نقول خُطط له هذا الانقلاب الدستوري على الثورة ومكتسباتها ومنتسبيها، حتى قبل أن يصل لسدة الحكم، فرفضت المعارضة الدستور لما احتوى من مواد تكرس نظاما رئاسيا ديكتاتوريا، ومن ثم يضعف المؤسسات الدستورية الأخرى مثل البرلمان، تزامن ذلك مع فشله في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، بل فاقمها، وبناء على الصلاحيات التي منحها سعيّد لنفسه؛ بدأ بتصفية المعارضة التي شملت كل التيارات والأحزاب، حتى بات الرجل يفتقر إلى جليس يشكو له سوء تقديره.

 

تونس التي أطلقت الشعار الخالد لثورات الربيع العربي، “الشعب يريد إسقاط النظام”؛ هتفت “جاك الدور جاك الدور يا خاين يا ديكتاتور”، وهم في ذلك يذكرونه بمصير بن علي، ويذكروننا بأن الثورة تمرض لكنها لا تموت.

 

إن الحالة التي تعيشها تونس، وتعيشها بلاد ثورات الربيع العربي، وإمعان نادي الثورات الربيع المضادة في إذلال شعوب هذه الثورات، إنما هو دافع لا شك على أن تشتعل جذوة الثورات في المنطقة من جديد. ولعل طوفان الأقصى أحيا روح النضال في قلوب الشعوب، بعد أن دجنها جبروت بطش المؤسسات الأمنية والعسكرية في هذه البلاد. فقمع الحريات السياسية والاقتصادية وحرية الرأي والتعبير وانسداد سبل التداول السلمي للسلطة، كلها عوامل مؤهلة ومحفزة لأن تقود تونس موجة جديدة لربيع المنطقة، ونحن على مشارف ذكرى هذه الثورات بعد أشهر قليلة، ولعل الإجابة هذه المرة أيضا ستكون تونس، وفي الإعادة إفادة بعد أن تعلمنا الدرس.