كشفت المفوضية المصرية للحقوق والحريات عن تفاوت ملحوظ ما بين بدء التحقيقات في القضية وإحالتها إلى المحاكمة، إذ أُحيلت 43 قضية للمحاكمة بعد فترة راوحت ما بين يوم وعامَين من بدء التحقيق فيها، و78 قضية أحيلت للمحاكمة بعد فترة تحقيق استمرّت من ثلاث سنوات إلى خمس، وأخيراً تسع قضايا أُحيلت بعد أكثر من خمس سنوات من فتحها.
وعلّقت المفوضية قائلةً: “لعلّ هذه الفترات تشير إلى واحد من أبرز الانتهاكات القانونية التي يتعرّض لها السجناء، وهي الحبس (الاحتياطي) لمدّة أكثر من الفترة القانونية المنصوص عليها بعامَين في حدّ أقصى. كذلك يشير هذا التفاوت إلى بطء في الإجراءات القضائية، ما قد يؤدّي إلى تأثيرات سلبية في العدالة، سواء من حيث طول أمد التقاضي أو من حيث ضمان حقوق المحبوسين”.
وأكدت “المفوضية ” أن قرارات إحالة القضايا التي تولّت نيابة أمن الدولة العليا بسلطة الانقلاب في مصر التحقيق بمعظمها، في خلال عام 2024 والأسابيع الأولى من عام 2025، وقدّرتها بإجمالي 130 قضية، 95 منها أُحيلت في العام الماضي و35 منذ بداية العام الجاري.
وأفادت المفوضية، في تقرير مفصّل نشرته أمس الأربعاء، بأنّ “قرارات الإحالة تأتي وسط مطالب متكرّرة بإغلاق ملفّ الحبس الاحتياطي المطوّل، والإفراج عن المحتجزين على خلفية قضايا سياسية وقضايا تتعلق بحرية الرأي والتعبير. لكنّ السلطات ردّت على هذه المطالب بمواصلة تكثيف الإحالات للمحاكم”.
وجددت المفوضية المصرية للحقوق والحريات مطالبتها لسلطات الانقلاب باتّخاذ خطوات عاجلة لإغلاق ملف الحبس الاحتياطي والإفراج عن جميع المحتجزين السياسيين. وشدّدت على أنّ ضمان العدالة وسيادة القانون يتطلّبان وضع حدّ لهذه الانتهاكات، وفتح المجال أمام ممارسة الحقوق السياسية والمدنية من دون قيود أو ملاحقة بما كفله الدستور والقانون، ومراجعة القوانين والإجراءات المتعلقة بمحاكم الإرهاب، بما يضمن التزامها ضمانات المحاكمة العادلة واحترام حقوق الإنسان.
وتُجري المفوضية تحليلاً ومراجعة لبيانات إحالة القضايا، من عام 2017 وحتى عام 2024، بهدف توضيح الاتجاهات الرئيسية في الإحالات القضائية وتسليط الضوء على الآليات القانونية المرتبطة بها، مع التشديد على أهمية ضمان محاكمات عادلة تحترم حقوق الإنسان وتراعي المعايير القانونية.
ووفقاً لتقرير المفوضية، فقد جاء توزيع القضايا بحسب درجة المحكمة، فأُحيلت 129 قضية إلى محاكم الجنايات، وقضية واحدة فقط إلى محاكم الجنح الاقتصادية، الأمر الذي “يعكس توجّهاً نحو تصنيف معظم القضايا من ضمن قضايا الجنايات ذات الطبيعة الخطرة، ما يتطلّب تسليط الضوء على طبيعة الاتهامات ومدى توافقها مع هذا التصنيف”. وبحسب توزيع القضايا في مصر بحسب التاريخ، فقد جاءت بمعدّل أربع قضايا في عام 2017، وخمس في عام 2018، وعشر في عام 2019، و23 في عام 2020، و45 في عام 2021، و34 في عام 2022، وخمس في عام 2023، وأربع في عام 2024، الأمر الذي يشير إلى زيادة ملحوظة وكبيرة في القضايا في الفترة الممتدّة من عام 2020 إلى عام 2022.
وبيّنت المفوضية المصرية أنّ القضايا المحالة إلى المحاكمة تضمّنت عدداً كبيراً من الحقوقيين والصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، ويواجه هؤلاء اتهامات تتعلق بالانضمام إلى جماعة إرهابية أو المشاركة فيها أو نشر أخبار كاذبة. وما زال معظم هؤلاء رهن الحبس الاحتياطي، فيما حصل عدد منهم على إخلاء سبيل بعد سنوات طويلة من الاحتجاز. وتشمل قائمة القضايا في مصر قضية الباحث في المفوضية المصرية للحقوق والحريات إبراهيم عز الدين، التي أُحيلت إلى المحاكمة بعد الإفراج عنه، وكذلك قضية المحامي الحقوقي إبراهيم متولّي المحتجز منذ سنوات عدّة، بالإضافة إلى قضايا المترجمة مروة عرفة والصحافي كريم إبراهيم والمصوّر التلفزيوني كريم سالم والمصوّر الصحافي حمدي الزعيم.
وأعربت المفوضية المصرية للحقوق والحريات عن قلقها إزاء التوسّع في إحالة القضايا ذات الطابع السياسي إلى المحاكم، بدلاً من اتّخاذ خطوات جادة نحو الإفراج عن السجناء، وذلك في خطوة لإنهاء ملفّ الحبس الاحتياطي الممتدّ من دون مبرّر قانوني، الأمر الذي يُعَدّ انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان، ويتعارض مع المادة الـ9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تضمن حماية الأفراد من الاحتجاز التعسفي وتكفل حقّهم في محاكمة عادلة تلتزم المعايير القانونية الدولية. ورأت أنّ قرارات الإحالة إلى المحاكمة في مصر تمثّل شكلاً من أشكال استهداف النشطاء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين.
وطالبت المفوضية بالإفراج الفوري عن المحبوسين السياسيين وسجناء الرأي والمدافعين عن حقوق الإنسان المحالين إلى المحاكمة، مع إسقاط كلّ الاتهامات الموجّهة إليهم، خصوصاً أنّ عدداً منهم أحيل إلى المحاكمة في قضايا دُوّروا فيها من داخل السجون، بالإضافة إلى تأكيد ضمان المحاكمات العادلة والمنصفة لكلّ المتّهمين المحالين إلى المحاكمة.
وأوضحت المفوضية المصرية للحقوق والحريات، في تقريرها المفصّل الذي نشرته اليوم، أنّ “تصعيد الإحالات إلى المحاكم، خصوصاً إلى دوائر الإرهاب، يثير مخاوف بشأن ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة، ويُظهر تجاهلاً مستمرّاً لدعوات الإفراج عن المحتجزين السياسيين، خصوصاً أولئك الذين تجاوزت فترات حبسهم الاحتياطي المدد القانونية المنصوص عليها”. وتتعلّق المخاوف بأن “تكون الإحالة إلى المحاكمة خطوة جديدة لاستمرار حبس سجناء الرأي والسياسيين إنّما بشكل مختلف، بصدور أحكام في حقّهم بدلاً من حبسهم احتياطاً”، وهو “الأمر الذي يدفعنا إلى تأكيد ضرورة أن تكون المحاكمات منصفة وعادلة وبها مساحة واسعة للاستماع إلى ما تعرّض له السجناء من انتهاكات طوال سنوات حبسهم الاحتياطي”.
قال الباحث لدى المفوضية المصرية للحقوق والحريات إبراهيم عز الدين، الذي أُحيلت قضيته إلى المحكمة، إنّ “إحالتي إلى المحاكمة في مصر تأتي دليلاً إضافياً على أنّ النظام الحاكم لم يكتفِ بما تعرّضت له من انتهاكات، سواء عبر سلب ثلاث سنوات من حياتي في داخل السجون المصرية أو من خلال التعذيب الذي تعرّضت له، بل يواصل سياساته القمعية عبر استخدام القضاء أداةً لتصفية أيّ صوت معارض”. أضاف أنّ “هذه المحاكمة ليست مجرّد إجراء قانوني، بل هي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تكميم الأفواه وإرهاب النشطاء والمدافعين عن الحقوق، حتى أولئك الذين يكرّسون جهودهم للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمصريين”.
وتابع عز الدين أنّ “ما يحدث اليوم استكمال لمنظومة قمعية لا تتسامح مع أيّ رأي مخالف، حتى لو كان في إطار المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية وضمان حياة كريمة للمواطنين. فبدلاً من الاستماع إلى الأصوات المطالبة بالإصلاح والعدالة الاجتماعية، يردّ النظام بالمحاكمات والتضييق والسجن، ما يرسّخ قناعة راسخة بأنّ الإصلاح السياسي ليس من ضمن أجندته، بل بخلاف ذلك يواصل ترسيخ قبضته الأمنية على كلّ مناحي الحياة”. وشدّد على أنّ “هذه الممارسات لا تعكس فقط انعدام أيّ نية للإصلاح، بل تؤكد أنّ النظام يسير في اتّجاه أكثر استبداداً، إذ لم يعد يكتفي بإسكات الأصوات المعارضة، بل يسعى لمحوها تماماً، في محاولة يائسة لإحكام السيطرة على المجتمع وتجريد المواطنين من أيّ أمل بالتغيير أو العدالة”.
وذكرت المفوضية المصرية، في تقريرها، أنّ “كلّ القضايا التي حُدّدت جلسات لها سيُنظَر فيها أمام دائرتَين فقط من دوائر الإرهاب، مع تولّي دائرة واحدة مراجعة الأحكام الصادرة. وهذا التكدّس المتوقّع يثير مخاوف جدية بشأن قدرة هذه الدوائر على التعامل مع العدد المتزايد من القضايا، ما قد يؤدّي إلى تأخير إضافي في المحاكمات ويخلّ بضمانات المحاكمة العادلة”. ولفتت إلى أنّ هذه البيانات “تعكس التزايد الملحوظ في الإحالات القضائية وتوسّع نطاق القضايا المُحالة إلى دوائر الإرهاب، الأمر الذي يثير القلق بشأن مدى جدية السلطة في تعاملها مع المطالب الحقوقية والسياسية الخاصة بإنهاء ملفّ المحبوسين السياسيين والإفراج عن السجناء، إلى جانب تساؤلات عديدة عن ضمانات المحاكمة العادلة في التعامل مع المتّهمين في هذه القضايا”.