في مشهد يعكس مدى ارتهان مصر لغاز الاحتلال الإسرائيلي، أرجأت تل أبيب ضخ كميات إضافية من الغاز الطبيعي إلى مصر، رغم الاتفاق المسبق على رفع الإمدادات بنحو 200 مليون قدم مكعبة يوميًا اعتبارًا من مطلع الأسبوع الجاري، لتبدأ في يونيو المقبل، ما أحدث ارتباكًا في خطط وزارة البترول لتأمين احتياجات البلاد من الطاقة خلال موسم الصيف.
ورغم توقيع اتفاقيات كبرى منذ عام 2018 لتوريد الغاز من إسرائيل، وتوسيع خطوط الأنابيب بين عسقلان والعريش، فإن الجانب الإسرائيلي يمارس ضغوطًا لرفع الأسعار في توقيت بالغ الحساسية، مستغلاً ذروة الطلب على الغاز، وهو ما كشفه مصدر رفيع في الهيئة العامة للبترول، مؤكدًا أن إسرائيل تطالب برفع سعر المليون وحدة حرارية إلى أكثر من 8 دولارات، أي أعلى من السعر المحلي للمصانع المصرية.
من المصدر إلى المستورد: كيف أهدر السيسي ثروات مصر البحرية؟
تحول مصر من مصدر محتمل للطاقة إلى مستورد رئيسي للغاز، لا يُمكن قراءته بمعزل عن التنازلات التي قدمها نظام عبد الفتاح السيسي في ملفات الحدود البحرية وحقول الغاز، خاصة في شرق المتوسط. فقد فرّط النظام في حقوق مصر التاريخية لصالح إسرائيل واليونان وقبرص، من خلال اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقّعها عام 2018، والتي استبعدت مصر من التكتلات الاقتصادية الجديدة في شرق المتوسط، وأقصتها عن حقول غاز استراتيجية.
وبحسب دراسات خبراء، أبرزهم الدكتور محمد فؤاد المتخصص في اقتصاديات الطاقة، فإن حقل "غزة مارين" الواقع قبالة شواطئ غزة، وكذلك امتدادات حقل "لفياثان" الإسرائيلي، يقعان ضمن مناطق بحرية أقرب إلى مصر، وكان يمكن للقاهرة المطالبة بحصص منها لولا التنازلات السياسية والاقتصادية التي ارتبطت بإرضاء واشنطن وتل أبيب.
الاتفاقيات المجحفة: الغاز المصري بأيدٍ أجنبية
في عام 2018، وقعت شركة "دولفينوس" المصرية اتفاقية لاستيراد الغاز من حقلي "تمار" و"ليفياثان" الإسرائيليين لمدة 10 سنوات بقيمة 15 مليار دولار، عُدّلت لاحقًا عام 2019 لتزيد إلى 19.5 مليار دولار. وقد تم ربط الشبكة الوطنية المصرية بخطوط التوسعة البحرية بطول 46 كم بين عسقلان والعريش لضمان تدفق الغاز الإسرائيلي إلى مصانع تسييل الغاز في إدكو ورشيد.
هذه الصفقات، بحسب الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، حولت مصر إلى "معبر" لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، دون أن تحصّل القاهرة أي امتيازات سيادية أو حصة من الأرباح، بينما تتحمل في المقابل فاتورة سياسية واقتصادية ضخمة نتيجة هذا الاعتماد على الغاز المستورد.
أزمة جديدة في الأفق: نقص الغاز وتراجع الإنتاج المحلي
تعاني مصر منذ مطلع 2024 من أزمة متصاعدة في إنتاج الغاز المحلي، بعد التراجع الكبير في إنتاج حقل "ظهر"، الذي كان يُعوّل عليه لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وقد تأخرت شركة "إيني" الإيطالية في تنفيذ تعهداتها باستخراج 250 مليون قدم مكعبة يوميًا من الآبار الجديدة، ما زاد الضغط على الشبكة الوطنية التي تمد المصانع ومحطات الكهرباء والمنازل.
ومع تراجع الإمدادات من إسرائيل بسبب أعطال مزعومة في خطوط الإنتاج، لجأت وزارة البترول إلى السوق العالمية، حيث طلبت 14 شحنة غاز مسال خلال مايو، على أن يتم الدفع لاحقًا، في محاولة لتفادي انقطاعات الكهرباء خلال الصيف. وتخطط الحكومة لاستيراد ما يصل إلى 160 شحنة غاز مسال خلال عام 2025، بقيمة تقترب من 7 مليارات دولار، وفقًا لدراسة أعدها الخبير محمد فؤاد.
ارتهان استراتيجي: إسرائيل تتحكم في صنبور الغاز المصري
رغم كل ما سبق، يواصل النظام المصري الاعتماد على الغاز الإسرائيلي كعنصر أساسي في خططه لتأمين الطاقة، وهو ما يعرّض البلاد لمخاطر سياسية واقتصادية جسيمة، خاصة في ظل تصاعد التوترات في غزة. وقد سبق أن عطّلت تل أبيب الإمدادات بعد بدء عدوانها الأخير في أكتوبر 2023، ما أدى لانخفاض حاد في واردات الغاز من 1.1 مليار قدم مكعبة إلى 850 مليون فقط.
هذا الوضع يُبرز حجم الارتهان الذي أوصل السيسي مصر إليه، ليس فقط بالتفريط في مواردها السيادية، بل أيضًا بإخضاع أمنها الطاقي لأهواء وسياسات دولة الاحتلال، وسط تجاهل كامل لمطالب الخبراء بتحقيق استقلالية حقيقية في قطاع الطاقة، وإعادة التفاوض على الاتفاقيات المجحفة، والمطالبة بحصة عادلة من ثروات المتوسط.