كتب- يونس حمزاوي:
رغم التباين الواسع على مستوى الأفكار والأطروحات بين المرشحين ماري لوبان "مرشحة اليمين المتطرف"، وإيمانويل ماكرون "مرشح الوسط".
إلا أن الديمقراطية الفرنسية أكدت صلابتها في حماية المجتمع من الانزلاق نحو الفوضي وذلك بخلق الفرصة المتساوية لجميع الأفكار والتوجهات مهما كانت غرابتها ومهما كانت شديدة التطرف والعنصرية، وذلك ثقة في الشعب والمجتمع بأنه وحده قادر على لجم نزوات التطرف والعنصرية وتحجيم امتدادها وغلوها عبر الوعي السياسي والفكري والانتخابي.
تنامي اليمين المتطرف
تتسم الديمقراطية الغربية عموما بمساحة الحريات الكبيرة وحرية التعبير عن الرأي وحرية تشكيل الأحزاب وحق كل حزب في التنافس السياسي على قدم المساواة دون تدخل من السلطة لتحجيم تيار لحساب آخر، أو دعم حزب على حساب الآخرين أو إدارة انتخابات مزورة أو معلومة النتائج مسبقًا كما يحدث في مصر بعض بلاد العالم العربي البائس.
ويدلل على ذلك رحلة اليمين المتطرف في فرنسا من تيار مرفوض إلى ثاني أكبر قوة سياسية في البلاد بغم رفض الكثيرين لخطابه السياسي الذي يتسم بالعنصرية والعداء للآخر، خصوصا المختلف دينيا وعرقا ولغة.
يقول الكاتب الصحفي عمرو الشوبكي: "حين كنت طالبًا في فرنسا منذ عشرين عاما، كان قبول معظم السياسيين، خاصة من اليسار، لأى حوار مع زعيم حزب الجبهة الوطنية جان ماري لوبان (والد المرشحة الخاسرة مارين لوبان) أمرًا نادر الحدوث، فمقاطعة الحزب فى أى حوار إعلامى أو سياسى باعتباره حزبا عنصريا ومتطرفا كان أمرًا سائدًا ومتكررًا.

وإذا قرر طلاب اليمين المتطرف دعوة أحد قادتهم للجامعة، ففى أغلب الأحوال لن يستطيع الدخول بسبب اعتراضات الشباب الصاخبة، وغالبا ستلغى الإدارة الندوة حتى لا تحدث مصادمات بين الطلاب.
الاحتواء لا الإقصاء
إذن .. تعاملت الديمقراطية الفرنسية مع الخطاب العنصري لليمين المتطرف بالاحتواء لا الاقصاء إيمانا منها بقدرة الشعب والمجتمع على وقف امتداد خطاب الكراهية الذي يتسم به اليمين المتطرف وحزب لوبان، وتحجيمه والانحياز للخطاب الذي ينحاز للقيم الإنسانية والمساواة والحرية للجميع الذي يمثله ماكرون.
ودارت الأيام وتغيرت الأحوال وأصبح اليمين المتطرف فى كل بلاد العالم طرفا شرعيا ومقبولا داخل العملية السياسية، وأصبح فى بعض الحالات حاكما، وتحول من اليمين المتطرف العنصرى إلى اليمين الوطنى المتشدد. وقبل ذلك لم يكن أبدا محظورا ولم يتعرض أبدا للتضييق والإقصاء، بعكس البلاد العربية التي تقوم فيها السلطة ممثلة غالبًا في المؤسسة العسكرية والأمنية في تحديد القواعد العامة للعملية السياسية وتمنح الشرعية لمن تشاء وتحجبها عمن تشاء بناء على رؤيتها هي وليس على إرادة الشعب القادر على الفرز والتمييز، وحقه هو في منح الشرعية أو حجبها بناء على أجواء ديمقراطية وتنافسية سليمة ونزيهة ومتكافئة.
جنرال فرنسي مثل السيسي
ولك عزيزي القاري أن تتخيل لو أن فرنسا ابتليت بجنرال دموي على غرار قائد الانقلاب في مصر عبدالفتاح السيسي، وقرر أن يحظر حزب الجبهة الوطنية الذي تمثله مارين لوبان، قناعة منه بأن الحزب يمثل خطرا على الدولة الفرنسية ، وأن الأصلح لفرنسا هو حظر الحزب وملاحقه عناصره ، فمكانهم السجون لا الفضائيات ولا مجلس النواب، وأن وحدة فرنسا الحقيقية وتحقيق الأمن المنشود لن يتحقق إلا بحظر حزب لوبان ومحاكمة كل قياداته وسجن كل مناصريه حتى تحيا فرنسا وتزدهر.
وقام هذا الجنرال الأخرق بمخاطبة الرأي العام الفرنسي بهذه اللهجة الفاشية العنصرية هاتفا: " تحيا فرنسا تحيا فرنسا تحيا فرنسا! وسط هتاف وتصفيق من مناصريه ومؤيديه.
ماذا يمكن أن يحدث إذا تم ذلك؟
بلا شك فإن قوة المجتمع المدني الفرنسي سوف تسحق هذا الخطاب وتحكم على صاحبه بالجنون وسوف يتصدى الإعلام الفرنسي لهذا الخطاب الفاشي مؤكدا أن قوة فرنسا في تنوعها وقدرة الديمقراطية بها على احتواء الجميع وأنه ليس من حق أي سلطة مهما كانت أن تسحب الشرعية من أي حزب لأن صاحب الحق الوحيد في ذلك هو الشعب وليس أحد غيره.
ورغم رفضنا نحن لخطاب لوبان وإدراكنا أنه عنصري وفاشي ولكن فرنسا تعطي للجميع الدرس الأول والأهم في الديمقراطية وهو أن الحرية للجميع دون إقصاء ، وأن الشعب وحده صاحب الحق في منح أو حجب الشرعية.
ولكن ماذا لو أن هذا الجنرال الأخرق كان كارها للرئيس المنتخب ماكرون وقرر أن يقصيه بانقلاب دموي، مدعوما من 11 مليون انتخبوا مارين لوبان، ونزلوا إلى الشوارع مطالبين بإقالة الرئيس بعد عام من الآن، بعد فشله في توحيد فرنسا المنقسمة، زعما منه أن ذلك في مصلحة فرنسا وتجربة فرنسا واستقرار فرنسا وأوروبا عموما؟
بلا شك سيكون مصير هذا الجنرال المعتوه إما السجن وإما مستشفى الأمراض العقلية، ولكن في بلادنا البائسة يحتل مثل هذا السفيه كرسي الرئاسة ويزج بالرئيس المنتخب في غياهب السجون!.