بذخ “إسماعيل” و”السفيه” جلبا الاحتلال.. الخديو يعود مجددا

- ‎فيتقارير

كتب رانيا قناوي:

يعمل نظام الانقلاب العسكري في حكم البلاد اقتصاديا من خلال وجهين؛ أحدهما يظهر مع الفقراء ويرتدي فيه قائد الانقلاب قناع عبد الناصر، في فرض التقشف ورفع الدعم عن الغلابة وإنهاك الفقراء بالضرائب والفواتير ورفع سعر السلع الغذائية والاستراتيجية من دواء ووقود ومواصلات، والوجه الآخر يرتدي فيه قناع الخديوي إسماعيل ويظهر به مع الأغنياء، في تشييد المنتجعات والقصور وحفل قناة السويس، والاستدانة من الخارج لإنفاق مليارات الدولارات في البذخ وحياة الترف والسيارات الخاصة، ولاعبي كرة القدم والفنانين.

ولعل أحدث صور البذخ التي ينفذها قائد الانقلاب من أجندة الخديوي إسماعيل، بناء العاصمة الإدارية الجديدة، التي يمضي فيها السيسي على قدم وساق لنقل محاسبيه وزبانيته لها في وقت قياسي، من أجل تدشين مدينة "يوتيوبيا" التي سينتقل إليها الأغنياء ورجال كبار الدولة، ليتم عزلهم عن الفقراء والجائعين.

ووضع السيسي لبناء العاصمة الإدارية الجديدة كمرحلة الأولى ما يزيد على 40 مليار دولار، لبناء هذه المرحلة من العاصمة التي تتسع مساحتها لأكثرمن 170 ألف فدان، ووضع السيسي ميزانية الدولة تحت تصرف وكلائه لبناء هذه العاصمة، حتى أنه اقترض 3 مليارات دولار من الصين لبناء حي في العاصمة الادارية يضم أكبر ناطحة سحاب في إفريقيا بارتفاع 345 مترا، و 5 مباني سكنية و 12 مجمعا تجاريا، وفندقين!، كما أنفق ما يزيد على 16 مليار جنيه لبناء فندق الماسة كابيتال داخل العاصمة. ليتم عن عمد وإصرار تدمير مصر بالقروض والتبذير السفيه، وإغراق الشعب المصري في الفقر.

في الوقت الذي حذر خبراء استريجيون من نقل أركان الدولة المصرية والحكومة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، خاصة أن هذا المكان المكشوف في الصحراء والمعزول يعد كارثة استراتيجية، حتى أن أي دولة معادية (إسرائيل مثلا) يمكنها غزو مصر، من البحر الأحمر، حيث الطريق مفتوح ولا يستغرق أكثر من ساعة من الزمن.

داء الاقتراض
ويعتبر إسراف عبدالفتاح السيسي خلال الأربعة أعوام التي حكم فيها مصر بعد انقلابه العسكري يذكر بالسفه الذي عاشته مصر في عصر الخديو إسماعيل، والذي اقترض من أجل بناء القصور ودار الأوبرا واحتفالات قناة السويس، 126,354,360 مليون جنيه في هذا الوقت، الذي كان فيه الجنيه عملة قوية وسط باقي العملات.

ويسير السيسي على أجندة الخديو إسماعيل في كثرة الاقتراض، حيث لم يكن إسماعيل يدقق أو يعارض في الحسابات التي يقدمها له الماليون والسماسرة، فالقرض المشئوم الذي عقد سنة 1873 بلغ مقداره الأسمى 32 مليون جنيه لم يدخل منه الخزانة سوى 20,700,000 جنيه، منها أحد عشر مليونًا من الجنيهات نقدًا والتسعة ملايين سندات، وهو ما حدث بالفعل مع نظام السيسي حينما اقترض من دول الخليج باعترافه شخصيا خلال حديث مسرب مع اللواء عباس كامل مدير مكتبه، وبأنه تم الحصول على قروض تجاوزت الثلاثين مليار دولار من دول الخليج، ولم يدخل منها خزانة الدولة مليما واحدا.

كما أن إسماعيل لم يتسلم من القرض الذي عقده سنة 1870 سوى خمسة ملايين فقط، وكان أصله سبعة ملايين، وقس على ذلك باقي القروض. أما الديون السائرة فلم يكن لها ضابط ولا حساب، وكانت تبلغ ثلاثة أمثال قيمتها الحقيقية وفي بعض الأحيان أربعة أمثالها.

وقد أحصى بعض الماليين مقدار ما تسلمه الخديو من القروض فبلغ 54 مليونًا من الجنيهات تقريبًا في حين أن قيمتها الرسمية 96 مليونًا، فعل نفس الشيء السيسي حينما اقترض سرا من بنك التنمية الإفريقي خمسة مليارات دولارات، دون أن يفصح عنها، أو يعلن عن هذا القرض، كما لم يفصح عن سبب الحصول عليه.

إذن فقد كانت القروض أبرز سمات عصر إسماعيل، وهو ما قلده السيسي تماما. حيث أصبح الاقتراض عادة لكليهما، كما تبين أنهما اقترضا بشرط مجحفة، ولأغراض لا أهمية لها. ومعظمها كان لسداد الديون مستحقة السداد. ولم يتبق من مليارات السيسي وملايين الخديوي إسماعيل، للفقراء، سوى الحسرة وكظم غيظهم، تجاه بناء قصوره ، وتأثيثها ، وتجميلها ، كما ظهر في حياته الخاصة ، في حفلاته وأفراحه ، ومراقصه ، ورحلاته وسياحاته ، وأهوائه وملذاته، ومن هذه القصور سراي عابدين وسراي الجزيرة وسراي الرمل في عهد الخديوي إسماعيل، أما في عهد قائد الانقلاب فقد تم بناء فندق الماسة كابيتال والعاصمة الجديدة ومنتجعات حرمت على الفقراء، بعد أن باع النظامين رغم اختلاف العصور كل ثروات المصريين، وتسببا في احتلال البلاد. سواء بشكل مباشر خلال عهد إسماعيل، أو غير مباشر في عهد الانقلاب العسكري.

ماذا عن العاصمة
تضم العاصمة مناطق عمرانية على مساحة تقدر بنحو 460 كيلومترًا مربعًا، بالإضافة إلى 25 حيًا سكنيًا، ونحو 1.1 مليون وحدة سكنية، و40 ألف غرفة فندقية، ونحو 10 آلاف كيلومتر من الطرق، بخلاف إنشاء كيان رياضي على مساحة 93 فدانًا

إنشاء عاصمة إدارية جديدة ليست بالفكرة المستحدثة، إذ سبقها محاولات عدة، ففي عام 1976 وضع الرئيس الراحل أنور السادات حجر الأساس لمدينة بعيدة عن القاهرة، تحمل اسمه، بكلفة حينها قدرت بـ25 مليون جنيه مصري، لكن موظفي الدولة رفضوا الانتقال إليها بسبب ضعف الاتصال مع المدينة الأم.

وفي عهد مبارك تم إحياء الفكرة مجددًا، حيث تم وضع حجر الأساس لبناء مجمع الوزارات في القاهرة لنقل المكاتب والجهات الإدارية إليه إلا أنه توقف دون أسباب، وفي نوفمبر 2007 أعلن صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى آنذاك أن الحكومة انتهت من التخطيط لبناء عاصمة إدارية جديدة شرق الطريق الدائري في الجهة المقابلة للقاهرة الجديدة، وقد أرسل أحمد نظيف رئيس الحكومة وقتها للبرلمان يفيد بذلك، لكن الموضوع توقف مرة أخرى، حتى جاء عبد الفتاح السيسي ليعلن إحياء المشروع مجددًا بميزانية قدرت في البداية بنحو 45 مليار دولار في وقت تعاني فيه مصر من أزمات اقتصادية طاحنة.

تقدر مساحة العاصمة الإدارية الجديدة المزمع إقامتها بـ168 ألف فدان (700 كيلومتر مربع) بكلفة 45 مليار دولار.

تقع العاصمة الإدارية الجديدة على بعد 45 كيلومترًا من وسط القاهرة و80 كيلومترًا من السويس و55 كيلومترًا من خليج السويس، على مساحدة تقدر بـ168 ألف فدان (700 كيلومتر مربع)، على أن تكون مرحلتها الأولى على مساحة 135 كيلومترًا مربعًا يتم الانتهاء منها بنهاية 2017.

وفي أعقاب انسحاب الشركة الإماراتية تم تأسيس شركة العاصمة الإدارية برأس مال قدره 6 مليارات جنيه (350 مليون دولار) بالشراكة بين الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، بالإضافة إلى 8 شركات مصرية عاملة في هذا المشروع.

كما استعانت الشركة الجديدة ببعض المؤسسات الأجنبية أبرزها ثلاث شركات صينية كان لها تطوير الحي الحكومي بالعاصمة بكلفة 3 مليار دولار، كذلك المدينة الترفيهية وتطوير 14 ألف فدان بقيمة استثمارات تقدر بـ20 مليار دولار.

الكلفة الباهظة لهذا الاحتفال أثارت استياء الكثيرين خاصة في ظل ما تكشفه من تناقض واضح بين ما يتم إنفاقه على مثل هذه المشروعات في الوقت الذي تجاوز إجمالي الدين العام الخارجي والداخلي 80 مليار دولار

المرحلة الأولى من المشروع تستهدف تطوير 3 آلاف فدان بكلفة 17 مليار دولار، وفي سبتمبر 2016 أعلن وزير الإسكان المصري تنفيذ 30% من البنية التحتية للمرحلة الأولى، وبعد عام وتحديدًا في سبتمبر الماضي أعلن تنفيذ 90% من مرافق الحي الحكومي بالعاصمة والتي تضم 18 مبنى وزاريًا ومقرًا لكل من البرلمان ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية.

وتستهدف شركة العاصمة الإدارية المنوطة بإدارة المشروع وتنفيذه بالمشاركة مع الشركات الأجنبية الأخرى تحقيق 30 مليار جنيه (1.9 مليار دولار) من عوائد بيع الأراضي الاستثمارية في المرحلة الأولى

ازداوجية الفقر
في حفل وصفه البعض بـ"الأسطوري" أُعلن افتتاح فندق "الماسة" بالعاصمة الإدارية الجديدة، مساء الجمعة الماضية، والذي يعد واحدًا من أكبر المتاحف على مستوى العالم بحسب ما تناقلته وسائل إعلام مصرية.

الكلفة الباهظة لهذا الاحتفال أثارت استياء الكثيرين خاصة في ظل ما تكشفه من تناقض واضح بين ما يتم إنفاقه على مثل هذه المشروعات في الوقت الذي تجاوز إجمالي الدين العام الخارجي والداخلي 80 مليار دولار، وهو ما يعادل قيمة الإنتاج المحلي الإجمالي للبلاد، وفي خلال عام واحد فقط تضاعف الدين الخارجي بنسبة ارتفاع قياسية أوصلت مصر إلى حد الخطر وفق تحذيرات الخبراء، يترتب على هذا الدين فوائد تجاوزت سقف الـ20 مليار دولار، وكلما زاد الدين زادت الفوائد وتآكلت الزيادة في الإنتاج المحلي وزاد الفقر.

ومنذ الوهلة الأولى لإعلان تدشين العاصمة الإدارية كشفت الإعلانات العقارية هنا وهناك عن طبيعة الشرائح التي ستقيم في هذه المدينة الجديدة، مما يعني أن الفقراء خارج دائرة الحسابات بصورة نهائية لا تقبل الشك أو التأويل، في ظل الأرقام الفلكية المعلنة لأسعار الوحدات السكنية المقرر إنشاؤها هناك، فمن يملك من الفقراء الحد الأدنى للوحدات السكنية بالمشروع والتي تبلغ 3.3 مليون جنيه – حسب إعلان الشركات الاستثمارية – لشراء وحدة سكنية في هذا المشروع؟

مؤشرات الأسعار الخاصة بالفيلات و"التوين هاوس" (فيلا متصلة بفيلا أخرى يمكن أن يتقاسمها اثنان من السكان) و"البنت هاوس" (أعلى شقة بالمبنى ويكون مُلحقا بها مبنى صغير في سطح المبنى)، في أول كومباوند (هو مجمع سكني مغلق بسور وله بوابات أمن وحراسة وبه كل الخدمات التي تحتاج لها كسكن وأماكن ترفيهية) بالعاصمة والذي تم طرحه مؤخرًا، تعكس أن هذا المشروع للأغنياء فقط، بل للشريحة الأعلى من طبقة الأغنياء.

الكومباوند المعلن عنه والذي بدأت عمليات البيع به، يقع في محيط أكبر مسجد وكنيسة في مصر، بحسب ما أعلن السيسي سابقًا، ومدينة المعارض، والجامعة البريطانية، وعلى بعد 3 دقائق من طريق العين السخنة و10 دقائق من طريق السويس تقترب مساحته من 53 فدانًا، ويضم 388 فيلا، و3 مولات تحتل واجهة المشروع بالكامل.

لوحظ إنشاء سور كبير يُحيط بالعاصمة الإدارية من جميع الاتجاهات، وبه أبراج مراقبة تشبه تلك الأبراج الموجودة في المنشآت العسكرية، مضيفة "يبلغ طول السور 7 أمتار، على مساحة 168 ألف فدان، ويوجد أكثر من 15 بوابة كمدخل للعاصمة الإدارية، وتشبه العاصمة الإدارية بهذا السور السجن الكبير، والذي إذا أغلقت أبوابه، ولا يستطيع أحد الدخول إليه، أو الخروج منه" بحسب محررة الصحيفة التي علقت على ذلك بقولها: هناك ملاحظتين على بناء هذا السور، الأول: يعتبر إهدارًا للمال العام، ثانيًا: هل المغزى حماية الدولة من الشعب داخل العاصمة "وقت اللزوم"؟

ووجهت العديد من الانتقادات الحادة لهذا المشروع منذ إعلانه، خاصة أن الـ64 مليار جنيه الخاصة بتمويل بناء تفريعة قناة السويس الجديدة لم تحقق ثمارها حتى الآن، مما جعل من تكرار نفس التجربة مخاطرة في حد ذاتها تستوجب الدراسة المستفيضة تجنبًا للوقوع في نفس المأزق، خاصة مع زيادة معدلات الفقر والتي عبر عنها السيسي نفسه بقوله: "إحنا فقراء قوي".

السيسي ووجه عبدالناصر
وفي تعامل السيسي مع الفقراء يرتدي قناع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث دائما ما يخرج عليهم ليعلن فقر الدولة، وأبرز ما قال في هذا الإطار خلال مؤتمر الشباب الذي عقد بأسوان أمس الأول، قائلا: "أهل الشر مش عاوزينكم تعيشوا بيقولك خلي بالك ده ما بيعلمكش، خلي بالك ده مش سائل فيك، خلي بالك دول مش واخدين بالهم منكم، بس ماقالكش خلي بالك انت فقير أوي، محدش قالك إنك إنت فقير أوي، لا خلوا بالكم إحنا فقراء أوي لكن احنا بنقولهم انه رغم فقرنا هنكافح ونطلع لقدام".

وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فأن 27.8% من السكان في ريف مصر فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغير الغذاء، وأن 57% من سكان ريف الوجه القبلى فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحرى، في حي أن معدل إنفاق الفرد سنويًا أقل من 4 آلاف جنيه سنويًا، أى أقل من 333 جنيه شهريًا.

تزامن مع هذا التقرير، زيادة مرتبات القضاة والضباط على 50% في الموازنة الجديدة، حيث أوضح مشروع الموازنة الجديدة للعام المالي 20162017م، أن نسبة 50% من الزيادة الموجهة للأجور، وقيمتها 10 مليارات جنيه، من نصيب الضباط والقضاة.