"ما زلت أتذكر كلماتهم الأخيرة لي (نرجوك.. لا تنسنا)، تتردد في أذني كل يومٍ مثل أجراس الكنيسة، مثل نداءٍ يومي من أجل الصلاة".
بهذه الكلمات، يتذكر منصور العُمَرِي، وهو ناشطٌ سوري في مجال حقوق الإنسان، اللحظة التي نادى فيها حارس السجن على اسمه بعد أن قضى 9 أشهر في الاعتقال.. كان محظوظاً لإطلاق سراحه، ولكنه لا ينسى هؤلاء الذين تركهم خلفه، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
الأوضاع في سجون النظام السوري أشبه بالجحيم.. يروي المعتقلون أنهم يُحتَجَزون في زنزاناتٍ مزدحمة، ويعانون سوء التغذية والإيذاء الجسدي والنفسي بانتظام. آلاف المعتقلين ماتوا بسبب التعذيب، أو بسبب الأوضاع الوحشية والإهمال، والعديد من المعتقلين السابقين، الذين أُجرِيَت مقابلاتٌ معهم من أجل فيلم "Syria’s Disappeared: The Case Against Assad"، يعانون عُقدة ذنب النجاة أو "متلازمة الناجي" (وهي حالة نفسية تحدث بسبب شعور الشخص بالذنب لنجاته من كارثةٍ ما في حين لم يتمكن آخرون من النجاة).
ويقول مازن الحُمادة، وهو ناشطٌ يساري وموظف في شركة بترول، واعتُقل 18 شهراً: "عندما تم سجننا، وعد بعضنا بعضاً بأنَّه إذا خرج أحدنا، فإنَّه سيبلغ العالم ما يحدث داخل السجون. أنا عازمٌ على فضح هذا النظام مثلما اتفقنا. إنَّه واجبي تجاه الباقين في السجون".
وردد العمري قائلاً: "مساعدة هؤلاء الذين ما زالوا معتقلين هو الدواء لآلام نفسي دائماً".
عشرات الآلاف من السوريين مفقودون الآن بسبب الاعتقالات، وهذا جانبٌ مرعب وخفي للحرب الأهلية السورية التي اندلعت منذ 6 سنوات. ويُعد الاعتقال أداة قمع تستخدمها الدولة منذ فترةٍ طويلة لإسكات ومعاقبة معارضيها، ولكنَّه لم يكن يُستخدم أبداً كعقوبة على نطاقٍ واسع بهذا الشكل.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات السلمية عام 2011 في أعقاب ثورات الربيع العربي، تعامل نظام الرئيس بشار الأسد بعنفٍ شديد مع أي وكل أنواع المعارضة. وقوبلت المطالبات بالإصلاح بإطلاق النار، وشن قوات الأمن حملات اعتقالات جماعية. ومع انحدار الدولة إلى حربٍ أهلية وحشية منذ ذلك الحين، استمرت الاعتقالات إلى يومنا هذا.
ويرفض النظام السوري الكشف عن أسماء المعتقلين أو الإفصاح عن عدد المحبوسين في سجونه السرية. وهذا نوعٌ آخر من التعذيب بالنسبة لعائلات وأصدقاء المعتقلين. فهم يبحثون عن أحبائهم المختفين، ولا يعلمون إن كانوا موتى أم أحياء.
ولدى مازن العديد من أفراد العائلة المقربين مختفين في المعتقلات حالياً، ويقول مازن: "أفتقدهم بشدة. إنَّهم لا يغيبون عن تفكيري، أنظر إلى صورهم كل يوم، ويمنحونني القوة لكي أستمر".
التوثيق الذي يقوم به النظام السوري شاهد على وحشيته؛ إذ تُصنَّف الصور التي تلتقطها الشرطة العسكرية للموتى في قوائم. الآلاف من هذه الصور هُرّبَت خارج البلاد في عام 2013 بواسطة منشق هارب يحمل اسماً حركياً "القيصر". تُظهر هذه الصور أكثر من 6700 جثة لأشخاص ماتوا في سجون النظام. كانت العديد من الجثث هزيلة وتبدو عليها آثار واضحة للتعذيب، مثل الكدمات، والحروق، واقتلاع العيون. وكانت الجثث بالصورة مُرقَّمة ومُصوَّرة مع بطاقةٍ مسجل عليها مكان اعتقالهم.
ونشرت الجمعية السورية للمفقودين ومعتقلي الرأي صور وجوه هذه الجثث على الإنترنت؛ من أجل التعرف عليها. وتبحث العائلات في هذه الصور التي هربها "القيصر" عن أحبائهم المفقودين. هذا البحث المُحبط يشوبه بعضٌ من الشك؛ لأنَّ بعض الوجوه مُشوَّهة أو تأثرت بفقدانٍ شديدٍ في الوزن. ويبحث الأقارب مرة تلو الأخرى في هذه الجثث؛ لمحاولة التعرف على الأشخاص الذين كانوا يعرفونهم سابقاً.
ورغم هذه الصعوبات، تعرفت العائلات على المئات من الجثث من الصور التي سربها "القيصر". بالنسبة لمريم حلك، فإنَّ العثور على صورة ابنها أيهم منحها بعض الارتياح. كان هناك ملصق على جبهته يقول إنَّه الجثة رقم 320 التابعة لمركز احتجاز رقم 215. كان هو أصغر أبناء مريم، ويبلغ من العمر 25 عاماً، وكان شاباً محبوباً يدرُس من أجل الحصول على درجة الماجستير في طب الأسنان.
رؤية صورة أيهم ساعدت مريم قليلاً في غلق هذه الصفحة، ولكنها -ما زالت- لا تعلم أين جثته. إنَّها تحلم بدفن ابنها، وتريد أيضاً أن يتم إعدام بشار الأسد والمسؤولين عن قواته الأمنية.
واتهمت الأمم المتحدة النظام السوري بقتل واغتصاب وتعذيب وإبادة المعتقلين، ولكن لم يُتخذ أي إجراء لمساءلة النظام السوري على هذه الجرائم ضد الإنسانية حتى الآن. واستخدمت روسيا والصين حق الفيتو للاعتراض على قرار مجلس الأمن بإحالة سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ويرفض النظام السوري، مراراً وتكراراً، دخول مراقبين دوليين مستقلين لفحص المعتقلات. وتدعو منظمة العفو الدولية وعددٌ من المنظمات الأخرى إلى اتخاذ إجراءٍ حيال ذلك، والضغط على النظام لنشر أسماء المعتقلين وأماكن وجودهم، وماذا حدث لجثث هؤلاء الذين لقوا حتفهم.
ويتوسل منصور قائلاً: "لدينا الدليل، وهناك حاجة عاجلة لإنقاذ هؤلاء الذين ما زالوا أحياء. يجب علينا أن نفعل شيئاً ما".