عندما ننظر إلى خريطة العالم العربي، نراه غارقا في بحار من ظلمات التخلف والدكتاتورية والاستبداد، فلا يوجد دولة عربية واحدة تحكم بطريقة شرعية على النحو الذي أصله الإسلام والذي يعتمد على إرادة الناس وفق أداة البيعة والشوري، أو حتى على النحو الذي أصلته القوانين الوضعية عبر أدوات الديمقراطية وأصوات الجماهير بصناديق الانتخاب النزيهة غير المزورة أو المعلوب فيها.
في مصر هناك عشرات الآلاف يقبعون في سجون النظام العسكري الذي أسسه الديكتاتور عبدالفتاح السيسي بانقلابه المشئوم في يوليو 2013، بخلاف عشرات الآلاف الذين قتلوا بأدوات القمع والبطش الأمني والعسكري، سواء من الإسلاميين أو المهربين على الحدود كما بينت تسريبات موقع ديسكلوز الفرنسي في نوفمبر 2021م. وكان المحدث باسم رئاسة الانقلاب قد اعترف في مداخلة تلفزيونية أنه تم تدمير نحو 10 آلاف سيارة دفع رباعي على الحدود مع ليبيا، مقدرا عدد من قتلوا بها بنحو 40 ألفا على الأقل بافترض وجود أربعة أفراد في كل سيارة على الأقل.
وتمزقت ليبيا على النحو الذي نعاينه جميعا بفعل التدخلات الخارجية لا سيما من جانب دول تحالف الثورات المضادة (مصر ــ السعودية ـ الإمارات) وهو التحالف المدعوم من إسرائيل وفرنسا وروسيا وغيرها. فكل هؤلاء يريدون فرض نظام عسكري ديكتاتوري بقيادة الجنرال خليفة حفتر أو أي جنرال آخر؛ بشرط أن يكون جزءا من النظام العربي الرسمي الخاضع للقوى الدولية والإقليمية وللمؤسسات الدولية التي تفرض العولمة على الجميع لمحو هويات الأمم والشعوب وفرض هوية واحدة تسمح بالهيمنة الغربية المطلقة على الأرض.
مضى عقد على الربيع العربي تكشفت فيه كثير من الحقائق، ومدنا بأهرام من الوعي والإدراك ماكنا نتخيل أنها على هذا النحو المكشوف حاليا؛ فقد قتل نصف مليون عربي على الأقل، بخلاف نحو 16 مليون لاجئ تشردوا بفعل الجبروت والطغيان واستثار عصابات الحكم بالسلطة حتى على حساب الشعوب كما نرى في مصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس وغيرها.
وكانت صحيفة الإيكونوميست البريطانية في تقرير نشرته في ديسمبر 2020م، قد اتهمت أربعة أضلات بالتورط في هذه الجرائم الوحشية المروعة، وتسببت في إجهاض الربيع العربي ووأد أحلامه في الحرية والعدالة والاستقلال.
- أولها، الدولة العميقة في دول الربيع العربي، فقد جرى الإطاحة بالدكتاتوريين (مبارك ـ القذافي ــ بن علي) لكن بقيت النظم التي كانوا يحكمونها تعمل بكفاءة وبذات الأدوات القديمة؛ وهو ما فتح الباب أمام الثورات المضادة لإجهاض الربيع العربي؛ واعتبرت "إيكونوميست" ما جرى في مصر خير برهان على ذلك. كما فشلت تجربة مصر القصيرة مع الديمقراطية، غرقت ليبيا وسوريا واليمن في حرب أهلية وأصبحت ملاعب للقوى الأجنبية، بحسب المجلة.
- الثاني، هي دول الخليج العربي الثرية التي أنفقت مبالغ طائلة لتهدئة شعوبها ودعم القوى المناهضة للديمقراطية في أماكن أخرى. وأصبحت المنطقة أقل حرية مما كانت عليه في عام 2010 – وأسوأ حالا وفقا لمعظم المقاييس الأخرى أيضا". وبحسب الدكتور خليل العناني فإن المساعدات الاقتصادية التي قدمتها الأنظمة في أبوظبي والرياض للسيسي بقدر ببما يزيد عن ستين مليار دولار، ناهيك عن صفقات الأسلحة التي وقعها مع فرنسا وإيطاليا وروسيا والولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، يحصل السيسي على دعم سياسي بهدف تحسين صورته في واشنطن من خلال مجموعات الضغط، ولقد أدى سفير الإمارات يوسف العتيبة دورا محوريا في تسويق الانقلاب المصري عام 2013 لدى الإدارة الأمريكية.
- الثالث، هو الحكومات الغربية، حيث اكتفت المجلة البريطانية بإشارة محدودة إلى دور الغرب في إجهاض الربيع العربي، وقالت إن هناك تساؤلات عدة تلقي باللوم على الغرب ومسئوليته عن ذلك. هذا التجاهل من جانب المجلة البريطانية لن يطمس الحقيقة المرة والصادمة في حكاية الربيع العربي ألا وهي الإفلاس السياسي والأخلاقي للغرب. فبينما تعطي الحكومات الغربية دروسا حول احترام الديمقراطية فإن سلوكها خلال العقد الماضي كان على العكس تماما من ذلك. لقد فشلت الحكومات الغربية في دعم عمليات التحول الديمقراطي في مصر وليبيا وتونس واليمن، وبدلا من ذلك بادرت بمساندة الأنظمة العربية السلطوية التي ناصبت الربيع العربي العداء. ومنحت البلدان الغربية أولوية لصفقات السلاح والاستثمارات على حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي. ولعل من أهم الدروس التي ينبغي أن تتعلمها الشعوب العربية من مجريات الأحداث خلال العقد الماضي، هو عدم الاتكال على الدعم الخارجي في مواجهة الأنظمة السلطوية ومن أجل تحقيق الديمقراطية. كما أن المجلة البريطانية تجاهلت دور "إسرائيل" في إجهاض أي تحول ديمقراطي وتحريض قوى الثورة المضادة من أجل الانقلاب على الربيع العربي ووأد أي روح ثورية أو إسلامية أو ديمقراطية.
- الرابع، هو عدم وعي قطاعات واسعة من شعوب المنطقة بأهمية الديمقراطية؛ فــ "النجاح يتطلب أكثر من مجرد انتخابات. كما أنه يحتاج إلى مواطنين ملتزمين ومطلعين، ومجموعة مشتركة من القواعد واعتقاد مشترك بأن الخلافات السياسية لا تشكل تهديدا وجوديا. لكن الديكتاتوريات هي ذلك التهديد الأكبر، بحكم تصميمها، وافتقارها إلى هذه الصفات – ومنع أي خلافات سياسية من الظهور". مضيفة أن المتشككين من أن شعوب المنطقة لا تناسبهم الديمقراطية، يغفلون عن النموذج التونسي، ولو أن الأخير في بداياته، ويطبق بشكل غير ناضج بعد.