احتفلت هيئة البريد المصرية بمئوية استقلال مصر عن الاحتلال البريطاني وذلك بإصدار طابع تذكاري يعبر تصميمه عن الذكرى، تضمن نقوشا فرعونية وصورا لثلاثة من القيادات الوطنية في أوائل القرن الماضي، وهم سعد زغلول وعدلي يكن وعبد الخالق ثروت. وهو الاستقلال الذي تم في 15 مارس سنة 1922م.
طابع البريد التذكاري مقاسه (4 سم * 5 سم)، وقيمته 10 جنيهات، وهو مزود بتقنية "رمز كيو آر" (QR Code) بهدف خلق تجربة تفاعلية ثرية لمقتني تلك الطوابع، تمكنهم من اكتساب المعرفة اللازمة بشأن المناسبة بطريقة مبتكرة وجذابة، وفق بيان هيئة البريد. وعادة ما تحاول هيئة البريد تخليد بعض الأحداث بإصدار طابع بريد تذكاري. تستهدف به توثيق الحدث والتوعية به. ويصف رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للبريد شريف فاروق، استقلال مصر بالحدث الفارق في تاريخ الوطن، مضيفا أنه يمثل تجسيدا واضحا لكفاح المصريين لسنوات طويلة، وأن مصر منذ حصولها على الاستقلال لعبت دورا بارزا على الساحة الإقليمية والدولية، "ومن أبرز ما قامت به دعم تأسيس جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة"، وفق قوله.
ومن أهم الملاحظات على هذه الذكرى أنه كان استقلالا شكليا؛ ذلك أن القرار صد بتصويت أغلبية مجلس النواب الإنجليزي بإلغاء الحماية البريطانية عن القطر المصري، وموافقة غالبية الأعضاء على قرار حصول مصر على استقلالها، لتصبح بذلك أول بلد عربي يتخلص من قيود الاحتلال بشكل صوري؛ ذلك أن القرار لم يلغ فعليا نفوذ بريطانيا وهيمنتها على صناعة القرار في مصر وتوجيه السياسات العليا بما لا يتعارض مع المصالح البريطانية، علاوة على ذلك فإن بريطانيا احتفظت لنفسها بالسيطرة المطلقة على قناة السويس، من أجل التحكم في أهم ممر مائي يتحكم في طريق التجارة بين الشرق والغرب، ويجعل بريطانيا تتحكم في طريق التجارة إلى أكبر مستعمراتها في الهند. وفي فبراير سنة 1942، وأثناء الحرب العالمية الثانية، تدخل الإنجليز بشكل سافر وأجبروا الحكومة على الاستقالة وأجبروا الملك على تكليف حكومة وفدية باعتباره أكبر الأحزاب المصرية حينذاك. وهو ما يعصف بأي معنى لهذا الاستقلال الصوري.
الملاحظة الثانية، أن قرار مجلس النواب البريطاني لم يأت من فراغ؛ بل نتيجة الحراك الشعبي الواسع الذي اندلع قبل أربع سنين بثورة 1919، التي زعزعت الاحتلال وبرهنت على أن المصريين عازمون على تحرير بلادهم؛ وهو الحراك الشعبي الأول منذ بداية الاحتلال البريطاني سنة 1881م. ورغم ذلك فإن القصر حاول اختطاف الإنجاز النسبي من صانعيه وأبطاله الحقيقيين وهم الشعب، فصدر في مساء ذات اليوم (15 مارس 1922)، كتاب سلطاني من حاكم مصر آنذاك السلطان فؤاد إلى جموع الشعب، أعلن فيه تحول البلاد من السلطنة إلى المملكة ووقع عليه "فؤاد"، وكان نصه: «إلى شعبنا الكريم.. لقد منّ الله علينا بأن جعل استقلال البلاد على يدنا، وإنا لنبتهل إلى المولى عز وجل بأخلص الشكر، وأجمل الحمد على ذلك، ونعلن على ملأ العالم أن مصر منذ اليوم دولة متمتعة بالسيادة والاستقلال، ونتخذ لنفسنا لقب صاحب الجلالة ملك مصر، ليكون لبلادنا ما يتفق مع استقلالها من مظاهر الشخصية الدولية وأسباب العزة القومية.. وإنا ندعو المولى القدير أن يجعل هذا اليوم فاتحة عصر سعيد يعيد لمصر ذكرى ماضيها المجيد". فهذا الاستقلال النسبي لم يتم بسبب أي جهود قام به السلطان الذي اختار لنفسه لقب "ملك"، بل نتيجة جهاد شعب وبطولات رجال ونساء مغمورين لا نعلمهم لكن الله يعلمهم ولن يضيع جهادهم. لكن ذلك لا يمنع من الإشادة بالدور العظيم الذي قام به سعد زغلول باشا وعدلي يكن وعبدالخالف ثروت وغيرهم من علماء ورجال الأزهر الشريف.
الملاحظة الثالثة، أن آخر جندي بريطاني خرج من مصر كان في يونيو 1956، نتيجة اتفاق بين بريطانيا وحكومة يوليو 1952، لكن اللافت في الأمر أن هذا الخروج أيضا تم باتفاق وليس نتيجة نضال حقيقي لإجبار المحتل على الرحيل؛ يعزز من ذلك أن الحكومة البريطانية التي كانت تمتلك النفوذ والسيطرة على مصر وتعرف كل كبيرة وصغيرة، لم تحذر الملك من انقلاب الجيش رغم أنها كان تعلم بالتحرك قبل وقوعه، وعندما تم الانقلاب في 23 يوليو 1952م، لم تمانع بريطانيا سيطرة الجيش على الحكم، واتخذت موقفا يبدو في ظاهره حياديا؛ وما كان لها أن تتخذ هذا الموقف إلا بعد ضمان مصالحها وعدم تعرضها للخطر لا سيما وأن قادة يوليو أكدوا على ضمان حماية الأجانب وممتلكاتهم ومصالح الدول الأجنبية في مصر. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة تعترف بنظام انقلاب يوليو وهو الموقف الذي دفع كثيرين إلى التساؤل حول الدور الأمريكي في حركة يوليو لا سيما وأن واشنطن كانت قد خرجت من الحرب العالمية الثانية بوصفها القوى العالمية الأكبر وراحت تزحزع بريطانيا عن عرشها لتتبوأ هي صدارة العالم وتعمل على تصميم نظام عالمي جديد وفق أجندتها وهو ما دفع كاتبا مخضرما بحجم محمد جلال كشك إلى تأليف كتابه الواسع الانتشار "ثورة يوليو الأمريكية"، موثقا علاقة عبدالناصر بالمخابرات الأمريكية ودورها في سيطرة الجيش على حكم مصر. معنى ذلك أن مصر خرجت من النفوذ البريطاني للنفوذ الأمريكي، ثم تعزز هذا النفوذ في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979م حتى اليوم.
خرج الاحتلال وترك ذيوله يحمون مصالحه ويقمعون شعبا عريقا لا يستحق كل هذا الظلم والجبروت، فمتى تتحرر بلادنا من الطغيان وينعم شعبنا بالحرية والاستقلال الحقيقي والسيادة الكاملة على وأرضه وسمائه ومياهه؟