لم يكن الشيخ حسن البنا سوى مشروع لنهضة الأمة وتحرير إرادة شعوبها ومجابهة الطغاة والظلم والاستبداد، وهو نهج ومنهاج جماعة الإخوان المسلمين حتى الآن ، وهذا سر اعتقالهم وقتل أبناء الجماعة في الميادين وفي السجون والمعتقلات وأمام منصات القضاء الشامخ.
اليوم 12 فبراير، تمر الذكرى الـ74 لاستشهاد شيخ المجاهدين وإمام الدعاة الشيخ حسن البنا، بتصميم وتخطيط من الملك والإنجليز ، بعد محاولات عدة لاغتياله على أيدي بعض السياسيين والأحزاب، التي رأت في البنا مشروعا تحرريا وطنيا، يهدد مصالحهم وقتئذ، كحزب مصر الفتاة والحزب الشيوعي المصري وحزب الوفد والإنجليز والملك.
الاغتيال أمام جمعية الشبان المسلمين
يروي عبد الكريم منصور، زوج شقيقة البنا، أن ترتيبات القتل ، تمت بتنسيق وترتيب حكومي، حيث جرى اعتقال الإخوان عدا الإمام الشهيد وإيداعهم السجون ، وسحب المسدس المرخص الخاص بالإمام الشهيد ، و سحب الجندي المكلف بالحراسة على منزل الإمام الشهيد ، رغم أنه عرض عليهم التكفل براتبه ، وكان جميع الزعماء توضع لهم حراسة خاصة.
كما تم اعتقال أخيه اليوزباشي عبد الباسط الذي أحس بالمؤامرة على أخيه وجاء ليحرسه ، وقطع خط التليفون حتى لا يتمكن من الاتصال بالخارج .
كما جرى اعتقال كل من ذهب لزيارة الإمام حسن البنا في هذه الفترة ، وإذا دخل الزائر ولم يُر اعتقل أثناء خروجه ، وإذا سلم عليه شخص في الطريق أثناء سيره اعتقل حتى ولو كان من غير الإخوان المسلمين.
وأيضا سحب السيارة الخاصة بالإمام الشهيد، وكانت ملك صهره عبد الحكيم عابدين .
بجانب عدم السماح له بمغادرة القاهرة أو السفر إلى أي مكان .
شغل الإمام الشهيد بمفاوضات الصلح بينه وبين الحكومة، وهي اللحظة الفاصلة التي تم فيها الغدر.
يوم الاغتيال
ففي يوم الاغتيال كلف الإمام الشهيد حسن البنا قبل العصر صهره عبد الكريم منصور بالذهاب إلى التليفونات الخارجية في السيدة للاتصال بالشيخ عبد الله النبراوي في بنها ، لكي يبلغه رغبة الإمام في الإقامة عنده في عزبته بأبعادية النبراوي، وكانت هذه العزبة محاطة برجال النبراوي وحراسه، فلما تكلم عبد الكريم مع النبراوي مع أهله وقالوا "لا داعي لحضور الإمام لأن البوليس جاءنا وضربنا ودمر أثاث المنزل وممتلكاتنا ، واعتقل الشيخ عبد الله ، وعاد عبد الكريم إلى الإمام ليخبره بنتيجة المكالمة، فقال إنه قد جاءه الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين وأخبره بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات ، وإن بعض الشخصيات الحكومية ستحضر في جمعية الشبان المسلمين لهذا الغرض ، فأخبرعبد الكريم الإمام بأمر اعتقال الشيخ النبراوي ، ورجاه عدم الذهاب إلى الشبان المسلمين ، ولكنه رحمه الله صمم على الذهاب قائلا إني "وعدت ولا يجوز أن أخلف الميعاد".
الجريمة
وفي الساعة الثامنة والثلث من مساء يوم السبت 12 فبراير 1949م الموافق 14 ربيع الآخر في 1368هـ وقعت الجريمة.
يقول الأستاذ عبد الكريم منصور " ذهبنا إلى جمعية الشبان المسلمين، وقد أخبر الأستاذ البنا بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات، وإن شخصيات حكومية ستحضر في جمعية الشبان لهذا الغرض ، وجلسنا في الجمعية ولم تحضر الشخصية الحكومية حتى العشاء ، فقام الإمام الشهيد وصلى بالموجودين صلاة العشاء ، ثم جلسنا قليلا بعدها ولم تحضر هذه الشخصية".
وهنا طلب الإمام من الأستاذ محمد الليثي أن يستوقف تاكسي ، وخرجنا من الجمعية إلى شارع رمسيس الذي كان مظلما، وكانت الساعة تشير إلى الثامنة والثلث ، ووقف التاكسي الذي لم يكن هناك غيره في الشارع كله ، ودخل الإمام الشهيد في المقعد الخلفي ودخلت بعده وجلست إلى يمينه ، ثم نهض وأبدل المقاعد فجلس على يميني وجلست على يساره ، وفي هذه الأثناء كان يقف أمام السيارة شخصان فتقدم أحدهما وأراد فتح باب السيارة فأغلقته ، وحاول الفتح، وأنا أحاول الغلق مهددا لي بمسدسه ، وأخيرا فتح الباب وأطلق على صدري الرصاص، فتحولت إلى الجهة اليسرى فجاءت الرصاصة في مرفقي الأيمن ، وأمسكت بيده التي فيها المسدس وحاولت بيدي الأخرى أن انتزع منه المسدس فلم أجد ذراعي إلا معلقا ، العضد هو الذي يتحرك فقط ، وهنا أطلق المجرم رصاصة أخرى اخترقت المثانة وشلت حركة الرجل اليسرى ، وهنا عجزت عن الحركة ، فتركني وتوجه إلى الإمام الشهيد وحاول فتح الباب، ولم يستطع فأطلق الرصاص عليه ثم فتح الباب وظل يطلق الرصاص على الإمام الشهيد وهو يتراجع، وهنا قفز الإمام من السيارة وجرى خلفه حوالي مائة متر، إلا أن السيارة كانت تنتظره عند نقابة المحامين فاستقلها وهرب ، وعاد الإمام الشهيد وحملني وأجلسني في السيارة، حيث كانت رجلي اليسرى خارج السيارة لا أستطيع تحريكها.
ونادى الإمام الأستاذ محمد الليثي، وقال له رقم السيارة عندك " 9979" وجاء شخص آخر طويل القامة أسمر ، وقال هل أخذت رقم السيارة التي ارتكبت الحادث رقمها 1179 وانصرف .
دخل الإمام البنا إلى جمعية الشبان المسلمين وطلب عربية إسعاف ولكنها تأخرت، وهنا كان الناس قد تجمعوا فطلبوا من سائق السيارة أن يوصلنا فرفض، ولكنهم أرغموه على ذلك فأوصلنا إلى الإسعاف.
وأمام الإسعاف حملني الإمام الشهيد مرة أخرى من السيارة وأدخلني إلى الإسعاف وقبض حرس الإسعاف على السائق الذي حاول الهرب.
وجاء طبيب الإسعاف ليسعف الإمام البنا الذي قال له "أسعف الأستاذ عبد الكريم أولا لأن حالته خطيرة ، ورأى طبيب الإسعاف أن حالتي تستدعي نقلي إلى القصر العيني، فنقلنا أنا والإمام الشهيد وأدخلونا إحدى الغرف ، وجلسنا فترة حتى اتصلوا بالطبيب المناوب في منزله في روكسي بمصر الجديدة ، واستدعوه من السينما المجاورة حيث كان يشاهد فيلما ، وركب سيارته وجاء إلى القصر العيني.
مندوب الملك يشرف على القتل
في هذه الأثناء دخل علينا الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك، وقال صارخا "أنتم لسه مامتوش يا مجرمون ؟" وانصرف ، وهنا دخل الطبيب الذي أراد أن يسعف الإمام الشهيد أولا ولكنه قال له أسعف الأستاذ أولا ، وأمر الطبيب أحد الممرضين بخلع ملابس الشهيد ولكنه نهض من على السرير وخلعها بنفسه ، ولما أرادوا أخذ اسمي وعنواني قال لهم الإمام الشهيد، اتركوا الأستاذ عبد الكريم لأن حالته خطيرة وأعطاهم الاسم والعنوان .
وهنا دخل الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك ثانية وقال للطبيب ، أنا جاي من عند الحكمدار لأعرف حالة الشيخ حسن البنا ، فقال له الدكتور إن "حالته ليست خطيرة ، وبعد ذلك فصلوا بيني وبين الإمام ووضعوني في غرفة مع أحد المرضى ، ووضعوا الإمام في غرفة وحده".
وعلمت فيما بعد أن الأميرالاي محمد وصفي أتى إلى المستشفى مندوبا عن الملك، وكان مكلفا بالإجهاز على حياة الإمام الشهيد، إذ منع الطبيب من مواصلة العلاج وتركت دماء الإمام تنزف حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها تشكو ظلم الطواغيت.
منع الجنازة
اتخذ عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية قرارا صعبا بضرورة تشييع الجنازة مباشرة من مشرحة مستشفى قصر العيني ، حتى لا تتاح فرصة لتفاقم مشاعر الحزن والألم ، و تحسبا لتدفق المشاعر وانفلات زمام الأمور .
ولكن رجلا طاعنا في السن قد انحنى ظهره يبلغ من العمر سبعة وستين عاما كاملة ، عاريا من كل حيلة أو وسيلة أمام اللواء أحمد طلعت يسأل بإلحاح وبتوسل دون ملل أن تشيع الجنازة من منزل الفقيد ، إنه الشيخ " أحمد عبدالرحمن البنا " والد " حسن البنا " الذي زلزلت كلماته الملتاعة كيان اللواء المصمم على إنفاذ أمر رؤسائه ، فوعد باستئذان المسئولين على أن تشيع الجثة من غير مظاهرات ، وأن تدفن في الساعة التاسعة صباحا .
التشييع والنساء تحمل النعش
وردت تفاصيل التشييع في صحيفة " الكتلة " الناطقة باسم حزب الكتلة برئاسة مكرم عبيد باشا ، والمنشور بعد تسعة أشهر كاملة من الحادث نتيجة الرقابة .
لقد وصفت الصحيفة ما حدث وكتبه مأمون الشناوي بدون توقيع في عدد 11 نوفمبر 1949م في عهد وزارة عبد الهادي .
حيث تم " القبض على المعزيين ، ومنع الصلاة على جثمان الفقيد ، منع تلاوة القرآن الكريم على روحه".
ونقلت جثة الفقيد إلى بيته في سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين ، وقد أنساهم هول الجريمة أن الموتى لا يتكلمون ولا ينطقون.
وفي أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة ، ونزل الجند فأحاطوا بيت الإمام الفقيد ، ولم يتركوا ثقبا ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح .
كان الوالد هو وحده الذي يعلم وينتظر فإن أشقاء الفقيد جميعا كانوا في السجون ، وفتحوا الباب وأدخلوا الجثة ، ونشج الوالد المحطم بالبكاء فقالوا له "لا بكاء ولا عويل ، بل ولا مظاهر حداد ، ويقول والد الشهيد ، أُبلغت نبأ موته في الساعة الواحدة ، وقيل إنهم لن يسلموا إليّ جثته إلا إذا وعدتهم بأن تدفن في الساعة التاسعة صباحا بدون أي احتفال ، وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى قصر العيني إلى القبر".
وظل حصار البوليس مضروبا حول البيت وحده، بل حول الجثة نفسها لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد.
ويواصل والد الشهيد، قمت بنفسي بإعداد جثة ولدي للدفن ، فإن أحدا من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول ، ثم أنزلت الجثة حيث وضعت في النعش ، وبقيت مشكلة من يحملها إلي مقرها الأخير .
وطلبت إلى رجال البوليس أن يحضروا رجالا يحملوا النعش فرفضوا ، قلت لهم "ليس في البيت رجال ، فأجابوا فلتحمله النساء ، وخرج نعش الفقيد محمولا على أكتاف النساء".
ومشت الجنازة الفريدة في الطريق ، فإذا بالشارع كله رصف برجال البوليس ، وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم والسخط على الظلم.
وعندما وصلنا إلي جامع " قيسون " للصلاة على جثمان الفقيد ، كان المسجد خاليا حتى من الخدم ، وفهمت بعد ذلك أن رجال البوليس قدموا إلي بيت الله وأمروا من فيه بالانصراف، ريثما تتم الصلاة على جثمان ولدي.
ووقفت أمام النعش أصلي فانهمرت دموعي، ولم تكن دموعا بل كانت ابتهالات إلى السماء أن يدرك الله الناس برحمته.
ومضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعي ، فوارينا التراب هذا الأمل الغالي ، وعندما عدنا إلى البيت الباكي الحزين ، ومضى النهار وجاء الليل لم يحضر أحد من المعزيين ، لأن الجنود منعوا الناس من الدخول ، أما الذين استطاعوا الوصول إلينا للعزاء ، فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم ، فقد قبض عليهم ، وأُودعوا المعتقلات ، إلا شخصا واحدا هو مكرم عبيد باشا .
هذه الوقائع الدامية، التي تعبر عن خسة ووحشية ورغبة في الانتقام من شيخ الدعاة ، والداعي لنهضة الأمة من كبوتها، لا تتفرد كثيرا عما يفعله السيسي وجنده الطغاة في معاملة سجناء الرأي والمعارضين في السجون، مع المعتقلين ، والذين يقتل منهم الآلاف سرا بدم بارد، وتنسج حولهم القصص والروايات التي تتهمهم بمقاومة السلطات أو جماعات جهادية أو غيرها ، بعد تصفيتهم بدم بارد، وهو ما يحدث مع المعتقلين الذين أعيتهم ظروف الاحتجاز غير الآدمي، فيموتون بأوجاعهم بلا إنقاذ أو علاج، وهو ما تكرر مع الرئيس الشهيد محمد مرسي، الذي اشتكى قبل موته بمحاولات عديدة لاغتياله من قبل نظام السيسي، بل لم يتورع السيسي عن اعتقال النساء والاعتداء عليهن والتحرش بهن لاذلاهن وقتل روح المقاومة في نفوسهن، ولا أدل على كل ذلك من التقارير الدولية حول جرائم السيسي ضد أكثر من 60 ألف معتقل، وأحكام الإعدام المسيسة ضد شباب وشيوخ مصر، من أجل استلاب العقل المصري وهزيمة الروح المعنوية في ملايين المصريين، لإفراغ مخطط احتلال مصر لصالح أعدائها، وتعميق العجز من أجل كرسي العسكر الملوث بدماء الشرفاء، وهو ما كان يجابهه حسن البنا قبل 74 عاما.