غضب عارم اجتاح منظمات حقوق الإنسان تنديدا بدموية العسكر التي تمثلت بقيام سلطات الانقلاب بمصر بإعدام 538 بريئا في عام 2022 مقابل 403 أحكام في 2021 و295 في 2020 بعد توجيهها لهم تهما متعلقة بـ”الإرهاب” وهي أكبر عملية إعدام جماعي معروفة تنفذ في تاريخ مصر الحديث.
وفي مطلع العام الجاري 2023 قضت محكمة بالإعدام لشخص والسجن المؤبد لمدة 25 عاما لأحد عشر آخرين، تمت إدانتهم بالانضمام لجماعة إرهابية في قضية عرفت إعلاميا باسم “خلية داعش العمرانية” بحسب صحيفة الأهرام الحكومية.
سُعار الإعدامات
في تطور طبيعي للسفاح السيسي الذي لا يجيد سوى دور النعامة أمام الكبار، رغم تأسده على الضعفاء من شعبه، تقهقرت سيارة السيسي المدججة بالسباب والشتائم التي أطلقها نظام السيسي العسكري ضد السعودية ودول الخليج.
وكشرت السعودية والكويت عن أنيابهم، كاشفين عن فساد ملياري للسيسي وأبنائه وقادة العسكر والمقربين منه، عبر مقالات وتلميحات وتصريحات، حول تحويل مليارات المساعدات التي قدموها للسيسي منذ 2017 إلى حسابات سرية في بنوك أوروبا ولم تدخل حسابات الدولة، وهو ما تسبب في استمرار الأزمة الاقتصادية التي يعانيها الشعب المصري.
وأمام هذا المنعطف الخطير في العلاقة بين العسكر والكفيل الخليجي، تحول السفاح السيسي لتفريغ جام غضبه على الأبرياء في السجون، وأفادت صحيفة الأهرام في عددها الصادر الأربعاء أن محكمة الجنايات المنعقدة بمجمع محاكم بدر شرق القاهرة، قضت الثلاثاء بالإعدام لشخص، بينما عاقبت 11 متهما بالسجن المؤبد 25 عاما، كما شملت أحكام القضية، السجن بحق ستة متهمين لفترات تراوحت بين 10 و15 عاما، وبراءة أربعة أشخاص، ولا تزال أمام المتهمين فرصة الطعن في الحكم أمام محكمة النقض.
وكانت النيابة العامة وجهت للمتهمين مزاعم بـ “تولي قيادة جماعة إرهابية والانضمام إليها خلال الفترة بين عامي 2015 وسبتمبر 2019 والمشاركة في أحداث العنف والشغب بمنطقة العمرانية، غرب القاهرة والشروع في قتل ضباط وأفراد شرطة.
وشهدت مصر موجات متلاحقة من الإعدامات التي استهدفت مؤيدي الشرعية ومعارضي الانقلاب، عقب إطاحة الجيش في الثالث من يوليو 2013 بالرئيس الشهيد محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، بعد نحو عام على انتخابه، ومنذ نوفمبر 2013 تحظر سلطات الانقلاب جماعة الإخوان المسلمين التي صنفتها تنظيما إرهابيا.
وبحسب بيانات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، شهدت مصر منذ العام الماضي أحكاما بالإعدام بحق 39 متهما في قضايا مختلفة، بالإضافة إلى 46 آخرين أحيلت أوراقهم إلى مفتي حكومة الانقلاب لأخذ الرأي الشرعي في إعدامهم.
وأيدت محكمة النقض، أرفع محاكم الاستنئاف المصرية، هذا الشهر 12 حكما بالإعدام ضد أشخاص بينهم عدد من كبار قادة الإخوان المسلمين، الذين أدينوا في محاكمة جماعية غير عادلة بتهم تتعلق بمشاركتهم في اعتصام رابعة عام 2013.
ولأول مرة تؤيد أحكام الإعدام ضد قادة مُعارضة بارزين، بينهم عضو برلمان سابق ووزير سابق في حكومة الرئيس السابق محمد مرسي، لينضموا بذلك إلى العشرات الذين انتهى بهم الأمر بأحكام بالإعدام بعد إجراءات مشابهة مسيّسة وجائرة.
بيد أن مصر لا تحتمل المزيد من الإعدامات، فالبلاد عالقة في أزمة سياسية بلا أفق، تتصدرها انتهاكات جسيمة ترتكبها قوات الأمن لتصبح كأخبار يومية، المزيد من الإعدامات ستؤدي حتما إلى تقويض آفاق أي جهود مستقبلية للعدالة الانتقالية من شأنها تعافي البلاد.
ثالث أسوأ دولة
بمعدل غير مسبوق تنفذ مصر الإعدامات، في ظل حكومة السفاح السيسي، ما جعلها ثالث أسوأ دولة في العالم من حيث عدد الإعدامات في العام 2020، وفقا لـ “منظمة العفو الدولية”.
في أكتوبر ونوفمبر وحدهما، أعدمت سلطات الانقلاب 57 رجلا وامرأة على الأقل، 49 منهم خلال عشرة أيام فقط، بينهم 15 رجلا على الأقل أدينوا في قضايا سياسية إثر محاكمات جائرة.
استمرت موجة الإعدامات في النصف الأول من العام الماضي، بتنفيذ 51 إعداما على الأقل، أُعدم تسعة أشخاص خلال شهر رمضان الماضي الذي كان يأتي تقليديا بشعور بالأمان النسبي للمحكومين في عنبر الإعدام، لعلمهم أن الإعدامات تتوقف عادة خلاله؛ أحدهم كان بعمر 82 عاما، تستمر الأمثلة على هذه الوحشية التي ترعاها عصابة الانقلاب وتطول.
باختصار، تخوض حكومة السفاح السيسي مهمة للقضاء على جميع قوى المعارضة المحتملة الناشئة عن انتفاضة 2011 في جميع أنحاء مصر.
تغولت سلطات الانقلاب بشكل كامل تقريبا على النظام القضائي؛ فالدستور والقوانين الأساسية عُدّلت، وأُدخلت قوانين جديدة للتحايل على ضمانات الإجراءات القانونية أو أُلغيت تماما.
عينت سلطات الانقلاب قضاة خاصين لما يسمى بمحاكم الإرهاب، أصدر هؤلاء وحدهم مئات أحكام الإعدام، بينما لا يترددون في الإعلان بوضوح تام عن وجهات نظرهم السياسية، والطعن في سلوك أطياف المعارضة برمتها، والإشادة بالجيش والقوى الأمنية.
كما أدخلت حكومة السفاح السيسي تعديلات في العام 2017 لتقويض استقلالية محكمة النقض، محكمة الاستئناف العليا، التي كانت ذات يوم مؤسسة تحظى باحترام كبير وعملت على مراجعة العديد من المحاكمات الجنائية المعيبة.
استخدمت حكومة السفاح السيسي السلطة القضائية كأداة لسجن المعارضين السياسيين وإعدامهم، وبالتالي رفع ثمن معارضة الحكومة بشكل باهظ، وهذا بهدف توجيه رسالة مفادها أن انتقاد الحكومة أو معارضتها يمكن أن يكلف الأشخاص حياتهم حرفيا، أحكام الإعدام في رابعة تمثل الثمن الطبيعي لأولئك الذين تحدوا الإطاحة العسكرية بمرسي بقيادة السيسي في 2013.
توفي الرئيس الشهيد محمد مرسي نفسه خلال احتجازه عام 2019، في عزلة تامة عن العالم الخارجي وبعد أن حُرم من العلاج الطبي، الشيء نفسه حدث لعصام العريان، وهو قيادي بارز آخر في الإخوان المسلمين، المتهم في قضية رابعة، والذي توفي في الحبس.
وبالتأكيد لا يمكن أن ننسى أنه في رابعة في أغسطس 2013، قتلت قوات الأمن خلال ساعات قرابة ألف من المتظاهرين السلميين بشكل كبير، من مؤيدي شرعية الرئيس الشهيد مرسي.
مع نهاية فض اعتصام رابعة في 14 أغسطس 2013، قالت قوات الأمن إنها “صادرت ما يزيد قليلا عن دستة من البنادق، بينما يقتل ما يربو قليلا عن عدد أصابع اليد من أفرادها أثناء الفض”.
كان ذلك الهجوم على رابعة استثنائيا في عنفه، ولم يكن بأي حال عملية لاستهداف العدد المزعوم من المتظاهرين المسلحين بين عشرات الآلاف من المتظاهرين السلميين، المحاكمة اللاحقة للمشاركين في رابعة لم تكن محاولة عادلة لتحديد ومحاكمة المسؤولين عن العنف المزعوم.
في ذات الوقت، لم يُحاسب أي مسؤول من عصابة الانقلاب على الإطلاق على مذبحة رابعة أو غيرها من حوادث إطلاق النار الجماعي على المتظاهرين التي قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
ومع تراجع الضغوط المحلية والدولية، ازدادت جرأة حكومة السفاح السيسي في قمعها الشامل، اليوم تعدم عصابة الانقلاب الإسلاميين، وغدا قد تعدم المعارضين السياسيين اليساريين أو العلمانيين، أو أي شخص قد يشكل تحديا سياسيا جادا.
ودائما ما يبني الطرف المتسلط خطابا لتبرير جرائمه، ويتحدث السفاح السيسي عن عالم يكون للمصريين فيه إنسانية أخرى تختلف عن الغرب، ويدعي أن الإعدامات مبررة في لدى المسلمين، لكن وفقا للعديد من الباحثين المسلمين، الحق في الحياة متأصل ومقدس في الإسلام.
حتى في ظل التفسيرات السائدة للشريعة التي تنص على عقوبة القصاص، فإنها تقتصر على جرائم لا يزيد عددها عن أصابع اليد، كما أنها تطبق فقط عند استيفاء جميع ضمانات المحاكمة العادلة، وحتى في مثل هذه الحالات، يحث الشرع بشدة على العفو، بل قال بعض الباحثين إنه “يجب وقف العقوبة في أوقات الأزمات المجتمعية، ناهيك عن أن عقوبة الإعدام علقت أو أُلغيت في العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، حيث يمكن أن يؤدي أدنى تحد للروايات الرسمية إلى إلصاق صفة الإرهابي بالمرء ومحاكمته على هذا النحو”.
الارتفاع الحاد في عدد الإعدامات في مصر يعكس مجتمعا مأزوما، والمزيد من الإعدامات ليس حلا، وينبغي لحكومة السفاح السيسي ألا تؤجج أزمة حقوق الإنسان التي خلقتها وغاصت في مستنقعها الدموي.
