تحويل القِبلة: اختبار الاستجابة لأمر الله

- ‎فيمقالات

 

فى مشهد تحويل القبلة تجد الطاعة الكاملة والاستجابة التامّة من صحابة النبى (رضوان الله عليهم أجمعين)، رغم عِظَمِ الموقف ومفاجأته، وهى طاعة مبصرة، واستجابة عن يقين فى الله عزّ وجلّ تليق بعظمته، وثقة فى رسوله ﷺ تليق بنبوّته، قالوا: (آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7].

من ثَمَّ تظل طاعةُ الله ورسوله نظريةً ما لم تُترجم إلى مواقف عملية تشهد لأصحابها بمدى الإخلاص واليقين. وقد أورد القرآن الكريم مشاهد عدة لأقوام عصوا رسلهم وخالفوا أمرهم رغم ما جاءهم من آيات تنفِّر من تلك المخالفة؛ إذ ما من رسول أُرسل إلا وله حق الطاعة على قومه؛ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ…) [النساء: 64]، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ…) [يس: 20].

أما أصحاب نبينا ﷺ فقد التزموا النهج الربانى القويم، مستجيبين لله وللرسول، مخالفين من سبقهم من الأمم التى اتبعت أهواءها فتفرقت بهم السُبل؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]. قالوا (رضوان الله عليهم) قبيل بدر: «والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحق لو سرتَ بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه».

روت كتب السنة أنه: (حضر الصلاة مع رسول الله ﷺ إلى القبلة الجديدة رجال ونساء وشباب وشيبان، فأرسل النبى ﷺ شابًّا من الأنصار يقال له «عبَّاد بن بِشر» فقال: «اذهب إلى بنى سلمة فى مسجد قباء وأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلت فليتحولوا فى الصلاة إلى البيت الحرام»، فأتاهم عبَّاد (رضى الله عنه) وهم يصلون الفجر، ووافاهم فى المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع رسول الله ﷺ قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، كانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة).

دار الصَحبُ الكرامُ دورةً بلغت (180) درجة إلى الجنوب كى يتجهوا إلى مكة بعد أن كانت وجهتهم إلى الشمال نحو بيت المقدس، كلُّ هذا أثناء الركوع؛ وبهذا نجحوا فى الاختبار الذى امتحن به الله إيمانهم؛ (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله…) [البقرة: 143].

وإن هذا لديدنهم (رضوان الله عليهم) فى كل ما جاء به النبى ﷺ، فها هو أبو بكر (رضى الله عنه) يقول: «لستُ تاركًا شيئًا كان رسول الله ﷺ يعمل به إلا عملتُ به، وإنى أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ». وها هو عمر (رضى الله عنه) الذى جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله وقال: «إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك».

إن هذا المشهد، مشهد تحويل القبلة واستجابة الصحابة (رضوان الله عليهم) لأمر النبى ﷺ فيه، يدعونا لإعادة النظر فى عبادتنا وطاعتنا، بل فى عقيدتنا عينها، فإنها لسبيل واحدة، وإنه لإله واحد لا يقبل شركًا ولا هوًى، وإن الحياة الحقيقية هى التى تكون خالصة لله، فلا حكم إلا له، ولا استعانة إلا به، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه (سبحانه). 

يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): «الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، ومن لم تحصل له هذه الاستجابة، فلا حياة له وإن كانت له حياةٌ بهيميةٌ مشتركةٌ بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هى حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان؛ ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابةً لدعوة الرسول ﷺ».