محمد عايش يكتب: أكاذيب الأنظمة العربية

- ‎فيمقالات

من يعود إلى أفلام ومسلسلات حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، يكتشف حجم الهذيان والكذب والدجل الذي كان يتم تسويقه على الإنسان العربي، لتبرير الهزائم والانتكاسات التي منيت بها الدول العربية وجيوشها الجرارة، وكيف كانت الأنظمة في هذه الدول تبيع الوهم لشعوبها، وتسوق الأكاذيب لهم، بينما كان الاحتلال الإسرائيلي يتوسع على الأرض ويتطور ويقوم بتغيير معالم المنطقة بالكامل.
أشهر الأعمال الدرامية في تلك الحقبة هو مسلسل «رأفت الهجان» الشهير، وهو مسلسل يزعم منتجوه أنه مستوحى من قصة حقيقية لجاسوس مصري نجحت المخابرات المصرية في زراعته داخل إسرائيل، والاستفادة منه في العديد من المعلومات التي استطاع نقلها، والاسم الحقيقي له هو «رفعت الجمّال» ومنه تم استيحاء اسم «رأفت الهجان». ويصف منتجو المسلسل بأنه «ملحمة بطولية من ملفات المخابرات المصرية»، وهو واحد من بين عدد كبير من الأعمال الدرامية والسينمائية، التي تناولت الفكرة ذاتها وظهرت في الفترة الزمنية نفسها، لاسيما أفلام المخرج والمنتج المعروف محمد مختار الذي أسس شركته عام 1980 وأنتج العديد من الأفلام للفنانة نادية الجندي مثل «48 ساعة في إسرائيل» و«مهمة في تل أبيب» و«شبكة الموت» وغيرها.

الدراما العربية انطوت على كمية ضخمة من الهذيان، الذي تبين سريعاً أنه جزء من خديعة كبيرة تعرض لها الإنسان العربي خلال العقود الماضية

والحقيقة أن هذه الأعمال الدرامية كانت ممتعة، وحتى من يشاهدها اليوم يمكن أن يعيش حالة غير مسبوقة من «النوستاليجيا» والعودة إلى ذكريات الماضي، عندما كان الملايين يتسمّرون أمام شاشات التلفزيون لمتابعة حلقة المساء من مسلسل «رأفت الهجان» أو فيلم السهرة الذي يروي كيف استطاعت نادية الجندي أن تتسلل إلى مبنى الموساد الإسرائيلي في تل أبيب وتنسخ الملفات السرية ومن ثم تغادر بسلام وذكاء بالغين. لكن المصيبة في هذه الأعمال الدرامية أنها تحتوي على كمية غير معقولة من استغباء المشاهد، والتعامل معه على أنه لا يستطيع التمييز بين الصدق والكذب، كما أنها تنطوي على كمية ضخمة من الهذيان، الذي تبين سريعاً أنه جزء من خديعة كبيرة تعرض لها الإنسان العربي خلال العقود الماضية. خلال السنوات التي كان فيها الإنسان العربي يتابع بطولات درامية وملاحم وهمية وسينمائية بحتة، كانت إسرائيل تجول في العالم العربي وتتحول إلى غول كبير، وخلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي كانت دبابات الاحتلال الاسرائيلي قد وصلت إلى قلب بيروت، واحتلت معها الجولان وأراضي من الأردن، إلى جانب الأراضي الفلسطينية بطبيعة الحال.. وبينما كان هذا المشهد على الأرض كانت الدراما تقول للمشاهد العربي إن عملاءنا يصولون ويجولون في تل أبيب، ويجمعون المعلومات التي ستجعلنا ننهي الاحتلال ونتغلب على هؤلاء المحتلين. موجة الدراما الخادعة المشار إليها كانت قد بلغت ذروتها خلال عقد الثمانينيات، أي بعد سنوات قليلة من توقيع الرئيس المصري أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد مع الإسرائيليين، وهي الاتفاقية التي أشعرت كل العرب بالانتكاسة والهزيمة والخذلان، ولذلك فليس غريباً أن يتم تسويق هذا الوهم لاحقاً على المشاهد العربي، من أجل رفع معنوياته وإعادة ترميم عقله بخديعة جديدة.
واستمرت موجة الدراما والسينما ذاتها بعد ذلك بطبيعة الحال خلال عقد التسعينيات، ففيلم «مهمة في تل أبيب» للمخرج نادر جلال تم إنتاجه عام 1992، أي بعد شهور قليلة من انعقاد مؤتمر مدريد للسلام، وبدء المفاوضات المباشرة لأول مرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وظهر الفيلم قبل عام واحد من اتفاق أوسلو وعامين فقط على معاهدة «وادي عربة».
خلاصة القول إننا في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كنا نتلقى الهزائم واحدة تلو الأخرى على الأرض، وكانت أنظمتنا العربية تستسلم تباعاً لدولة الاحتلال الاسرائيلي عبر اتفاقات التسوية والمفاوضات المباشرة، بينما كانت الدراما العربية تُحلق في فضاء آخر مختلف تماماً، وتقدم الخداع تباعاً للمشاهدين، وتقوم بإقناعهم أننا اخترقنا تل أبيب وأن اسرائيل هُزمت وأن الاحتلال لن يصمد أمام ملاحم البطولة الاستخباراتية التي تقوم بها الدول العربية.. واليوم يتبين أن كل ذلك ليس صحيحاً وأن ما كنا نعيشه ليس سوى سنوات من الخديعة وبيع الوهم.

…………
كاتب فلسطيني

نقلا عن “القدس العربي”