بعد سقوط بشار الأسد لم يعد المشهد العسكري والنفوذ الروسي بالمنطقة العربية، فبعد تراجع نفوذها في سوريا ولبنان باتت تبحث عن نفوذ في مكان آخر لا يقل أهمية عنهما لتفتح الرحلات العسكرية التي لا تتوقف، والقواعد ليبية باتت تعج بالسلاح الروسي، في معسكر الجنرال خليفة حفتر.
لتعيد روسيا تموضعها في المنطقة عبر عمليات شحن عسكري مكثفة في مسارات بعضها جديد إثر التطورات في سوريا لتنقل موسكو نفوذها من سوريا إلى ليبيا؟ في محاولة حاول للحفاظ على مكاسبها في مياه المتوسط الدافئة.
الرحلات الجوية
كشف مسارات تلك الرحلات والجسور وأبرز أنواع الطائرات التي قامت بها، بالإضافة لتحليل صور الأقمار الصناعية لقاعدة حميميم الروسية في سوريا وبعض القواعد الليبية، لتكشف نشاط وتطورات طرأت على تلك القواعد وكذلك عمليات شحن وتفريغ المعدات والعتاد.
المسارات الجديدة للطائرات الروسية
كشفت أحد التحقيقات عن مسارين رئيسيين سلكتهما طائرات الشحن العسكري الروسية منذ عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها المعارضة لإسقاط الأسد أواخر نوفمبر 2024: أحدهما مسار جديد تم استحداثه لبعض الطائرات بالتزامن مع عملية “ردع العدوان” يمر من روسيا إلى ليبيا ومنها إلى وجهات إفريقية، والآخر كان مسارًا قديمًا ومعتادًا بين روسيا وسوريا أو سوريا وليبيا، لكن كثافته زادت بعد “ردع العدوان”.
وأظهر التحليل الأول أن 3 طائرات من طراز “إليوشن” قامت وبشكل مفاجئ منذ عملية “ردع العدوان” بعدة رحلات من روسيا إلى إفريقيا مرورًا بليبيا، وتبين أن هذا المسار مغاير للمسارات الطبيعية التي كانت تتبعها تلك الطائرات من قبل.
وأوضح أنه مثلًا الطائرة من نوع إليوشن- 76 (IL-76) ذات الرقم التسجيلي RA-76845، كانت تسير سابقًا في مسارين جويين: الأول من روسيا لسوريا والعكس، والثاني من روسيا إلى دول إفريقية مرورًا بسوريا، لكن وبعد أيام من سقوط الأسد، تحديدًا في 16 ديسمبر 2024 قامت برحلة بين روسيا وليبيا ومالي، أي أنها جعلت ليبيا محطتها للانطلاق إلى دول إفريقيا بدلًا من سوريا.
وتابع التحليل أنته في إحدى رحلاتها المسجلة يوم 16 ديسمبر 2024 وجدنا أنها كانت تضع المسار من باماكو (عاصمة مالي) إلى باماكو ذاتها وهذا أمر غريب! لكن بالتتبع اليدوي لمسار الطائرة وجدنا أنها أقلعت من باماكو ثم توجهت إلى ليبيا مُخفية إشاراتها وخفضت ارتفاعها قُرب قاعدة الخادم الليبية، ثم ظهرت بعد ساعات فوق الأجواء الليبية وتوجهت نحو روسيا وظلت هناك لساعات.
وأضاف التحليل أنه في ذات اليوم عادت الطائرة متبعةً ذات الأسلوب والمسار من روسيا إلى الخادم في ليبيا ومنها إلى باماكو، أي أن الطائرة قامت بـ4 رحلات لكنها سجلتها على أنها رحلة واحدة.
ولفت أن تلك الطائرة اتبعت ذات المسار (روسيا – ليبيا -باماكو) في عدة رحلات أخرى وصل عددها إلى 12، موضحا مدة توقُّفها في قاعدة الخادم الليبية لا تتجاوز الساعات ثم تقلع باتجاه مالي بعدها، نمط الرحلات المتغير هذا وكثرة الوجهات، جعلنا نرجح في إيكاد أنها طريقة تشويش وتلاعب لإخفاء وجهاتها الحقيقية، وهذا النمط من التشويش لم نره سابقًا خلال اطلاعنا لسنوات على الطائرات ذات الرحلات العسكرية من روسيا.
ونوه أنه منذ يوم 26 نوفمبر وحتى 5 ديسمبر قامت بـ6 رحلات بداية من حميميم الى ليبيا ومنها الى عدة دول إفريقية.
أما التحليل الثاني فبرصد المسار الثاني من روسيا إلى سوريا ومنها إلى ليبيا فكانت تقوم به طائرتان: واحدة من طراز An-124-100 رقمها (RA-82038)، والثانية من طراز IL-76 رقمها (RA-78835). بتحليل سجل الطائرة الأولى ذات الرقم (RA-82038) اتضح أنها كانت تقوم بمتوسط رحلة شهريًا على هذا المسار طوال العامين الماضيين، لكن خلال الفترة بين 15 ديسمبر 2024 و14 يناير 2025 قامت بـ10 رحلات على هذا المسار.
وبحساب إجمالي رحلات الشحن العسكري الروسي التي تتبعناها منذ “ردع العدوان” وحتى 19 يناير وجدنا أنها بلغت نحو 86 رحلة، موزعة بالشكل التالي: الرحلات في المسارات المستحدثة: 30 رحلة الرحلات في المسارات الاعتيادية التي زادت كثافتها: 47 رحلة، الرحلات الاعتيادية التي لم تشهد أي زيادة في كثافتها: 9 رحلات (وهي رحلات ظلت ثابتة على مسارها دون زيادة أو نقصان قبل وأثناء وبعد “ردع العدوان”).
تحليل الأقمار الصناعية
وبتحليل كذلك صور الأقمار الصناعية منذ ديسمبر الماضي سواء التي حصلنا عليها من Planet أو صور Maxar التي نشرها المختصون لقاعدة الجفرة، لاحظ المحللون ظهور آليات أو عربات بجوار الطائرات في القاعدة، وتكرر ذلك 5 مرات في ديسمبر ومرة وحيدة في يناير.
ورجح المحللون أن تلك الآليات ربما تكون جزءًا من العتاد المشحون حديثًا إلى القاعدة، أو أنها كانت موجودة بالأساس في القاعدة وكانت تساهم في تفريغ العتاد من الطائرات.
ويقول المحللونإنه يعني هنا أن عمليات التفريغ في قاعدة الجفرة والتي أظهرتها صور الأقمار الصناعية على صلة بالمُعدات التي شُحِنت من حميميم.
حكومة طرابلس الشرعية
يذكر أن منطقة الساحل الأفريقي شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية في الفترة الأخيرة، خاصة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وفي أعقاب هذه الانقلابات، لوحظ تقارب بين الأنظمة الجديدة وروسيا، حيث سعت هذه الدول إلى تعزيز علاقاتها بموسكو كبديل عن النفوذ الفرنسي التقليدي في المنطقة.
ويرى الباحث السوري أحمد سمير التقي،، أن سعي روسيا للتمركز في ليبيا، يعود لحرصها على تحقيق أهدافها هناك، والاستفادة من النفط الليبي، واغتنام فرصة التذبذب هناك وفرض أجندتها.
تُبرز الخطوة الروسية أيضاً، وفق التقي، الأهمية الاستراتيجية للحفاظ على الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط بالنسبة لروسيا.
لكن من دون الوصول إلى موانئ ليبيا التي تسيطر عليها حكومة طرابلس، ستفقد روسيا نقاط تموضع حاسمة لفرض قوتها ونفوذها في البحر المتوسط.
استقبال حفتر
قال الخبير العسكري الليبي عادل عبد الكافي: إن “التواجد الروسي في ليبيا، معروف، وإن البلاد أضحت منطلقاً للعمليات الروسية في الساحل الأفريقي والصحراء غرب ووسط أفريقيا، وسط حفواة من المشير خليفة حفتر”.
تحدث عبد الكافي عن وجود “عمليات نقل للأسلحة الروسية إلى السودان، دعماً لميليشيات قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)”.
ومن المعروف أن الأصول العسكرية الروسية والعناصر المرتبطة سابقاً بمجموعة “فاغنر” التي تُعرف الآن باسم “فيلق إفريقيا الروسي”، متواجدة في ليبيا.
وتركز موسكو اهتمامها على منطقة برقة الليبية، خاصة بعد التطورات في سوريا “نظرًا للإمكانات التي توفرها المنطقة لإنشاء قاعدة جوية وأخرى بحرية”، وفقا لموقع تعقب الرحلات العسكرية والملاحة البحرية “إيتاميل رادار”.
ويقول عبد الكافي إن “المعسكر الشرقي في ليبيا، ممثلاً بخليفة حفتر، مرحب بالفكرة، بل لا يملك الاعتراض. معسكر الرجمة واقع تحت أيادي روسيا”.
ومعسكر الرجمة في ليبيا، هو مقر قيادة قوات المشير خليفة حفتر.
وبين خليفة حفتر وموسكو علاقة طويلة بدأت في عام 2019 عندما طلب دعم فاغنر لكي يستولي على طرابلس لكنه فشل رغم دعمها، وما يزيد من الوضع تعقيدا بالنسبة لخلفية حفتر هو التنافس السياسي القائم بين أولاده الستة حول خلافته، علما أن قبائل منطقة الشرق الليبي غير مستعدة لقبول مثل هذا الخيار.
كما شكل تعيين نجله صدام حفتر على رأس الهيئة المكلفة بإدارة الكوارث الطبيعية استفزازا لسكان درنة المنكوبين الذين نظموا احتجاجات تنديدا بقلة المساعدات الإنسانية التي وصلت إليها وبطئها، فبين تحدي جلب الأموال لإعادة إعمار المدينة ورغبته في إنهاء التعاون مع مجموعة فاغنر، وجد حفتر نفسه معزولا على الصعيدين الدولي والعربي أكثر من أي وقت مضى، ولن يجد حلا سوى الاستقواء بالروس.