قرى مصرية تحت تنكيل العسكر (1-2)

- ‎فيتقارير

القوات المسلحة هي عماد الدفاع عن أمن دولها برًّا وبحرًا وجوًّا، ويتم تشكيلها وتسليحها وتدريبها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية التي تضعها الدولة.

ومهمتها في الدرجة الأولى حماية الدولة من الاعتداء الخارجي, والمحافظة على الحدود البرية والمياه الإقليمية, والمجال الجوي للدولة، كما يتدخل الجيش أحيانًا في حالة فشل أجهزة الأمن المدنية, في السيطرة على الأوضاع الأمنية بداخل الدولة، بالإضافة لمواجهة الكوارث الطبيعة التي قد تشكل خطرا على الدولة.

والقوات المسلحة مؤسسة ضمن مؤسسات الدولة– وليست مؤسسها مستقلة عن الدولة– فهي مؤسسة يمتلكها الشعب وينفق عليها من ضرائبه وتخضع رسميا لرئيس الجمهورية المنتخب الذي يخول إليه تعين قادتها وعزلهم، ويراقبها الرئيس والبرلمان والأجهزة الرقابية الأخرى، ويجرم القانون في دول العالم تدخل العسكريين في الشئون السياسية، ويعتبر سطوهم وسيطرتهم على السياسة انقلابا عسكريا (Military coup)، وهو ما وقع بالفعل في العديد من الدول العربية في محاولة لفرض السيطرة على الحكم من قبل بعض العسكريين، فرأينا ذلك الانقلاب في سوريا عام 1949م ومصر 1952م والعراق (1936- 1958- 1959-1963) والجزائر 1961- 1965، والسودان 1958 وغيرها([1]).

جيش القبيلة لا جيش دولة

كان الناس يعيشون في قبائل تجمع بينهم عقيدة واحدة هي عقيدة المنتصر، ونظرية التغلب والقوة التي تقول إن الصراع بين البشر هو قانون طبيعي نتج عنه منتصر ومهزوم، ومن الطبيعي أن يفرض المنتصر سلطته على الجماعات المهزومة ويصبح هو الدولة والسلطة، فكان يسبي القبيلة المهزومة بل ربما يقوم بتدميرها ومحوها من الوجود بهدف التنكيل المعنوي للقبيلة المهزومة.

لكن الوضع تغير حاليا، حيث يعيش الإنسان كونه كائنا اجتماعيا بطبعه لا يستطيع العيش إلا في جماعات، وهو ما خلق أشكال تواصلٍ وتفاعلٍ تتطلب وجود سلطة لتنظيمها، حيث يتشكل بين الأفراد والحاكم عقد اجتماعي، يقوم الأفراد بموجبه باختيار أفضل من يمثلهم ويعمل على حمايتهم، ويستخدم سلطته في تكوين الجيوش التي ينفق عليها مما يحصل عليه من أفراد المجتمع بهدف حمايتهم([2]).

لكن تبدل الحال في الدول العربية فبعد أن كانت مهمة الجيوش هي حماية الأفراد أصبحت هي من تقوم بالتنكيل بالأفراد، وبعدما كانت مهمتها الحدود أصبحت من تفرط في الحدود، وبعدما كانت تأمن الممتلكات أصبحت هى من تقوم بتدمير الممتلكات بل والقرى والمدن ليس لا شيء إلا لتثبيت دعائم أركان حكم العسكر بعد ما قاموا من انقلابات، وهو ما سنحاول رصده في مصر خاصة بعدما التف العسكر على حكم مصر عام 1952م وبسطوا نفوذهم على الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها من جوانب الحياة، وقاموا بالتنكيل بكل من وقف في وجههم أو عارض حكمهم، حتى وصلت درجة هذا التنكيل بحصار قرى بأكملها وتدميرها واعتقال أفرادها لمجرد مخالفتهم للرأي مع العسكر.

ستدور دراستنا حول عهد من عهود العسكر يتشابهان في نفس الأسلوب حيث يعمد قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي إلى تقليد سياسة وأفعال عبدالناصر بالضبط، ولذا وجدنا عبدالناصر وعساكره ينكلون بقرية كرداسة بمحافظة الجيزة 1965م وقرية كمشيش بالمنوفية عام 1966م، في حين وجدنا السيسي ينقل بكل القرى المصرية التي رفضت انقلابه لكن بعض القرى نالها الكثير من الاضطهاد والحصار والقتل مثل قرية البصارطة بدمياط والتي قام اللواء نادر جنيدي مدير أمن دمياط بحصارها وهدم بيوتها عام 2017م، وقرية دلجا بالمنيا 2014م، وقرية العتامنة بسوهاج 2013م.

قرى تحت الحصار والتنكيل

حينما مات الجندي الإنجليزي في قرية دنشواى بالمنوفية، في 13 من يونيو عام 1906م، أقام الإنجليز محاكمة ظالمة للحكم على أهل القرية المظلومين، كان القاضي فيها والجلاد مصريين أمثال بطرس غالي وإبراهيم الهلباوي وأحمد فتحي زغلول– شقيق سعد زغلول – وهي السياسة التي غرسها الإنجليز في الجيوش العربية التي كانوا يشرفون على تدريبها طيلة 70 عاما من الاحتلال وأكثر، فجاءت عقيدة رجال العسكر متوافقة مع تربوا عليه على أيدي المستعمر الغربي، وهو ما جرى منذ 1952م.

تحرك الجيش– بالتعاون مع بعض القوى الشعبية وموافقتها كالإخوان– بمحاصرة القصر الملكي والقبض على قادة الجيش، وأعلنوا انقلابهم على الحكم الملكي في 23 يوليو 1952م بهدف تخليص البلاد من الظلم والفساد الذي استشرى في العهد الملكي.

لم تمض أيام حتى حدث الخلاف بين فصائل الجيش حول تسليم السلطة للمدنيين وعودة العسكر لثكناتهم مرة أخرى– وفق اتفاق مسبق – لكن الغلبة كانت للفصيل المطالب ببقاء العسكر بالسلطة وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، وبالفعل بسط سيطرته على الحكم بعدما نكل بكل المعارضين له سواء داخل الجيش أو من المدنيين وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، وتحول ومن معه إلى عسكرين في زي مدني– كما يفعل كل ما جاء بعده – وأعطى الضوء الأخضر لأتباعه لتثبت دعائم حكمه حتى ولو بالقوة، وأعلن أن رجاله فوق القانون، ولذا شهدت البلاد موجة من الاضطهاد والتعذيب الشديد، حتى إن المرأة كانت تهدد زوجها بالإبلاغ عنه([3]).

كرداسة في مرمى العسكر

كرداسة هي إحدى قرى محافظة الجيزة، والقريبة من شارع فيصل والهرم، وتشتهر بتجارة الأقمشة على مستوى الجمهورية، وبالحرف التقليدية وبالملابس والمنسوجات المفصلة يدويا، من فساتين وجلابيات وغيرها، وتعتبر مقصدا للمصريين قبل السياح من العرب والأجانب لشراء تلك المنتجات.

واشتهرت هذه القرية بحادثة كرداسة، والتي جرت وقائعها في 21 أغسطس 1965م، والتي كانت في يوم فتحت فيه أبواب جهنم على أهالي هذه القرية الذين تحركوا لنصرة عروسة قريتهم ظنوا أن بعض الرجال جاءوا لخطفها قبل أن يتبينوا الحقيقة.

بدأت القصة حينما وصلت دعوة الإخوان المسلمين إلى قرية كرداسة وانتشرت بين الناس، قبل أن تدخل الجماعة في طور المحنة مع العسكر عام 1954م، ويتم اعتقال عدد كبير منهم من بينهم أعضاء الإخوان بكرداسة.

كان في القرية بعض الشباب الذين آمنوا بدعوة الإخوان، لكن لم يطلهم اعتقالات 1954م ومنهم الأستاذ السيد نزيلي والصحفي جابر رزق وغيرهما، والذين كان لهم دور فيما سمى بتنظيم 1965م.

حينما بدأت التحقيقات مع حسين توفيق وتنظيمه عام 1965م تبين لهم وجود مجموعات من الإخوان تسعى لإحياء فكر الإخوان مرة أخرى، فعمدوا إلى سياسة التعذيب حتى توصلوا لطبيعة هذا التنظيم، وتحت سياط الاعتراف اعترف أحدهم على السيد نزيلي عويضة، والذي لم يمر على زفافه سوى أسبوع([4]).

زخرت كثير من المراجع والكتب بذكر هذه الحادثة وكيف وقعت– لأنها وبعد ما يقرب من نصف قرن وقعت حادثة لها على نفس القرية عام 2013م بعد انقلاب السيسي على الرئيس مرسي– لكننا سنذكر شهادة الصحفي جابر رزق لكونه أقرب للحدث وواحدا من أهالي قرية كرداسة، حيث يقول: وكان السيد نزيلي أحد أبناء قريتي عضوا في التنظيم، وذهب رجال الشرطة العسكرية للقبض عليه.. وعندما وصلوا إلى منزل السيد نزيلي للقبض عليه فلم يجدوه.. ووجدوا أخاه عبد الحميد نزيلي وأتركه يروي ما حدث.. يقول عبد الحميد: “كان ذلك عند غروب الشمس يوم 21 أغسطس سنة 1965 وكنت واقفا أمام منزلنا .. وإذا بثمانية رجال مفتولي العضلات مفتوحي الصدور يلبسون قمصانا على اللحم !!.. وبنطلونات ضيقة دخلوا حارتنا ووقفوا أمامي وسألوني عن أخي السيد نزيلي الأخصائي الاجتماعي .. قلت لهم: “تفضلوا.. أنا أخوه”. وفتحت لهم الباب وأجلستهم في حجرة الضيوف وعملت لهم شايا ثم قلت لهم: “إن أخي في القاهرة.. ولكنه لن يتأخر كثيرا وسوف يحضر بعد قليل”. فجأة وجدت اثنين منهم وقفين على باب البيت واثنين آخرين اقتحما المنزل وصعدا إلى الدور الثاني حيث زوجة أخي “العروس” التي لم يمض على زفافها إلا تسعة أيام.. فوقفت دهشا وقلقا وقلت لهم: من أنتم؟ وماذا تريدون؟ فتقدم مني أحدهم شاهرا مسدسه ووضعه في بطني وهددني قائلا: إذا تكلمت سأفرغ المسدس في بطنك!. قلت لهم: “من حقي أن أعرف من أنتم؟! .. وماذا تريدون؟!”. فجأة وجدت نفسي ملقى على الأرض.. وقفت بسرعة وجريت إلى صالة البيت .. فلحق بي اثنان منهم شلا حركتي وجراني إلى الخارج فأخذت أصيح: “أنتم لصوص.. ماذا تريدون مني؟! وزاد صراخي.. فخرج الناس من البيوت يستطلعون الخبر.. ازدحم الناس من حولي يسألون في دهشة ولا جواب إلا صراخي: حرامية حرامية! وبدءوا يسيرون في شارع وسط البلد وتقدم بعض شباب القرية ليخلصوني من أيديهم فأخرج واحد من الرجال الثمانية مسدسه وأطلق الرصاص في الهواء للإرهاب.. واستمروا يجرونني على الأرض والناس يخرجون من بيوتهم وطلقات الرصاص تتوالى .. وعلى بعد أمتار من ورائي كانت زوجة أخي “العروس” يجرونها هي أيضا وصرخات استغاثتها تتوالى.. لقد ظننت في أول الأمر أنهم جاءوا لخطف زوجة أخي .. وحتى هذه اللحظة لا أعرف أنهم من رجال الشرطة العسكرية لأنهم كانوا يرتدون الملابس المدنية ولم يأت معهم خفير من عند العمدة ولا عسكري بوليس من النقطة، كما أنهم لم يذهبوا بنا إلى دوار العمدة ولا إلى نقطة الشرطة، وإنما اتجهوا بنا ناحية أخرى كانت تنتظر فيها السيارات.

ويكمل عبد الحميد نزيلي قصة المأساة فيقول: “أيقن أهل القرية أننا مخطوفون أنا وعروسة أخي القاهرية.. فتقدم بعض شباب القرية ليخلصونا من أيديهم.. فحدث اشتباك مع الرجال الخاطفين.. فتكاثر الأهالي على الرجال الثمانية.. واشتركت النساء والأطفال بضربهم بالطوب والحجارة.. فهرب سبعة من الرجال الخاطفين وأصيب الثامن وأغمى عليه وتجمع الناس من حوله. تركت زوجة أخي تعود إلى المنزل وذهبت إلى نقطة شرطة القرية وعملت محضرا قلت فيه: “إن ثمانية رجال هاجموا منزلنا وأرادوا خطف عروسة أخي وخطفي وأطلقوا النار للإرهاب واستطاع الأهالي أن يخلصونا من أيديهم، وعندما سمع الشاويش النوبتجي من هذا الكلام طلب من العساكر الإسراع للقبض على الخاطفين فقلت له: إن واحدا منهم أصابته ضربة من أحد الأهالي ووقع على الأرض متأثرا بجراحه أسرع الشاويش النوبتجي إلى المكان، فوجد الرجل مغمى عليه والناس من حوله يتحدثون عن قصة الخطف.. انحنى الشاويش على الرجل المصاب وفتش جيوبه فأخرج من أحدهما بطاقته الشخصية فقرأها وقال لأهالي القري: خربت يا كرداسة.. مصيبة وحلت عليكم يا أهل كرداسة، إن هؤلاء الرجال ليسوا لصوصا إنهم من رجال الشرطة العسكرية!. وكان الشاويش عبد الحكيم يعرف جيدا أن الشرطة العسكرية هي صاحبة الحول واليد الطولي في هذا الوقت، بيدها مقاليد الحكم وهي يد الحاكم الباطشة وسوطه الذي يلهب به ظهور أبناء الشعب، بعدما فقدت وزارة الداخلية القدرة من وجه نظر العسكر([5]).

لم يدرك الأهالي فداحة الأمر وظلوا واقفين حول الرجل المصاب، أرسل الشاويش أحد الجنود يطلب سيارة الإسعاف وجنديا آخر ليبلغ الحادث إلى مركز إمبابة، وبقى هو ومن معه حول الرجل المصاب .. ولم تمض ساعة زمن حتى وصلت مجموعة من العربات المملوءة بالضباط والجنود أصحاب الباريهات الحمراء من رجال الشرطة العسكرية إلى مكان الحادث، وكان الأهالي لا يزالون واقفين ولكن بعيدا عن الرجل المصاب.. نادى أحد الضباط على بعض الأهالي ليسمع منهم كيف وقع الحادث.. تشجع ثلاثة شبان من الأهالي وتقدموا إلى حيث الضباط بعد دقائق قليلة انهال الضباط على الشبان الثلاثة باللكمات، وكان ذلك بداية الإرهاب الذي وقع على أهالي قرية بأسرها، تفرق الناس.. كل ذهب إلى منزله ولكنهم توجسوا خيفة مما يمكن أن يحدث.. وتتابعت سيارات الجيش المحملة بالضباط والجنود. ولم ينم الناس ليلتهم .. وكانوا يتسمعون من خلف الأبواب المغلقة ويرون من على أسطح المنازل الدبابات.  والمصفحات وهي تزمجر في شوارع القرية وحاراتها.. وحلقت الطائرات في سماء القرية ووصل إلى القرية وزير الداخلية وقتئذ عبد العظيم فهمي، والفريق علي جمال الدين رئيس غرفة عمليات الجيش، وشمس بدران، ومحافظ الجيزة، ومدير الأمن، ومأمور المركز، جاءوا جميعا ليشرفوا على عملية “تأديب” القرية.

وحوصرت القرية من جميع الجهات وانتشرت المصفحات والدبابات والسيارات في شوارع القرية ودروبها، وبدأت الأوامر تذاع من خلال مكبرات الصوت بفرض حظر التجول وسمع الأهالي أصوات الوعيد والتهديد لكل من يخالف الأوامر.. وأحسوا بالهول وقبعوا خلف الأبواب المغلقة ينتظرون ماذا سيأتي به الصباح وبدأت عمليات القبض على عمدة القرية ومشايخ القرية والخفراء وشيخ الخفراء وجميع عائلة العمدة وهي من أكبر عائلات القرية .. ربطوهم جميعا بحبال وساقوهم كالبهائم.. النساء في قمصان النوم نصف عرايا يولولن والأطفال يصرخون والرجال في ذهول يجللهم الذل والعار.. اتجهوا بالجميع إلى نقطة القرية وانهال الزبانية عليهم “بالكرابيج” والعصي بلا رحمة وبلا اعتبار لأي قيمة إنسانية.. مزقوا ثياب الرجال وتركوهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم أمام الزوجات والأطفال.

ويقول يوسف أيوب المكاوي، ابن عمدة القرية السابق وأخ العمدة الحالي: “سمعنا مكبرات الصوت تحذرنا من الخروج أو الدخول.. طلبوا ممن في الداخل ألا يخرجوا ومن الذين في الخارج ألا يدخلوا وألا يغادر أحد مكانه.. قبضوا على أخي العمدة علي أيوب، وابن عمي شيخ البلد العجوز السيد حمزة رحمة الله عليه.. وأخي محمود فهمي عضو مجلس النواب السابق وجميع رجال العائلة، ونسائها وجميع الأطفال فوق سن 12 سنة.. ساقونا جميعا إلى المدرسة الإعدادية التي اتخذتها الشرطة العسكرية مقر قيادتها لأنها تقع في وسط القرية وحولوها إلى ساحة تعذيب رهيبة.. ربطونا جميعا أسرة العمدة من أيدينا.. مزقوا ثيابنا وأوقفنا عرايا.. بكيت حزنا عندما رأيت أخي العمدة وأخي محمود عريانين كما ولدتهم أمي.. تمزقت عندما رأيت ابن عمي الشيخ سيد حمزة نائب العمدة والبالغ من العمر أكثر من ستين عاما ليس عليه سروال ومنهك من التعذيب!! لقد جردوني من ملابسي.. وطرحوني على الأرض ومزقوا جسدي بالسياط سلخوني سلخا.. ووضع الفريق علي جمال الدين– الذي قيل إنه قتل بالسم – إصبعه في عيني.. وبعد هذه الطريحة أوقفونا بعضنا أمام بعض، وأمرونا أن يضرب أحدنا الآخر والذي لا يضرب بقوة يمزق بالسياط، ثم أمرونا أن يبصق كل منا على وجه الآخر، ثم أنهكونا بالأمر بالقيام والجلوس وبعد ذلك أخذونا طابورا كطابور أسرى الحرب وأركبونا عربات مكشوفة وطافوا بنا شوارع القرية الرئيسية وكانوا يضربون النساء والأطفال بالسياط، حتى يعلو صراخهم فيكون ذلك أمعن في الإرهاب لأهالي القرية([6]).

وبعد هذا الاستعراض الرهيب خرجنا في عربات مصفحة من قرية كرداسة واتجهت بنا المصفحات إلى السجن الحربي باستيل عبد الناصر.. النساء يولولن والأطفال يصرخون في رعب والرجال في ذهول.. وصلنا إلى السجن الحربي حيث أقيمت أفظع مذبحة بشرية لخيرة شباب مصر ورجالها والتي لم يحدث لها مثيل في تاريخ الشعب المصري.

استقبلنا حمزة البسيوني جلاد مصر.. والعميد سعد زغلول عبد الكريم قائد الشرطة العسكرية ومجموعة من زبانية السجن الحربي.. وساقونا كالبهائم والسياط تنهال على الجميع لا فرق بين طفل صغير أو امرأة حامل أو شيخ ضعيف حتى وصلنا إلى ساحة واسعة فتقدم من كل منا جندي من الزبانية وجردوه مما بقى عليه من الثياب.. وأوقفونا على شكل دائرة وأمرونا أن نسجد على الأرض وانهال كل جندي على ضحيته، والنساء يشاهدن هذا المنظر المفجع.

أخرجونا لعمل استعراض للأسرى والسبايا أمام الفريق أول محمد فوزي وأمامه أمرونا بالركوع فركعنا، ثم أمروا النساء أن تركب كل واحدة على ظهر رجل ولم يستثنوا من ذلك حتى المرأة الحامل التي يعوقها حملها عن تنفيذ هذا الأمر فتوسلت بدموعها لهم! ثم أمروا كل رجل منا أن يختار لنفسه اسم امرأة ينادونه به.. ثم أحضروا مجموعة من الزبانية انهالوا عليه بالضرب وعددا من الكلاب تنهش فيه ويزداد نهشها كلما ازداد الضرب. في النهاية ألقوا بنا في زنزانات حشرونا فيها حشرا وأغلقوا علينا الأبواب وجاء واحد من الزبانية بعد نصف ساعة وفتح الأبواب وبيده جردل ميكروكروم وبيده فرشة بياض كان يغمس الفرشاة ثم يمسح بها جسد كل منا.. وفي الصباح أخرجونا من الزنزانات.. وحلقوا لكل رجل منا ناحية من شنبه وحاجبا من حاجبيه ثم أعادونا إلى الزنازين، وأدخلوا معنا الكلاب لمدة نصف ساعة تنهش فينا.. ثم أخرجوا الكلاب وأخرجونا للتحقيق وعلقونا في الفلكة وأعطونا “طريحة ” ثانية، وقالوا لنا “هذا غذاؤكم”، وحدث ذلك عند العشاء أيضا.. استمر حالنا على تلك الصورة تسعة وعشرين يوما داخل السجن الحربي.. ولما لم يجدوا علينا أية مسئولية أخرجونا من السجن الحربي وحملتنا العربات عرايا كما ولدتنا أمهاتنا حتى باب القرية.

ويقول عبد الرحمن القبلاوي، إمام وخطيب مسجد وهو من أبناء القرية:: “استبيحت القرية ثلاثة أيام من صبيحة الحادث يوم الأحد حتى ثالث يوم.. فتشت جميع منازل القرية وخربت ومزقوا الفرش وحطموا كل شيء يمكن تحطيمه.. ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم أفسدوا كل شيء داخل البيوت، خلطوا الدقيق بالجبن بالحبوب بروث البهائم.. قبضوا على الآلاف من الرجال والنساء والأطفال فرضوا حراسة على كل شارع وكل حارة وكل درب. انتشر الجنود في كل مكان .. فرض حظر التجول طول الثلاثة أيام حتى نفذ الماء والطعام.. ونهبت المحال التجارية وسرقت حلى النساء وأهدرت رجولة الرجال وأقاموا ثلاث ساحات تعذيب داخل القرية . . في المدرسة الإعدادية . . وفي الوحدة المجمعة . . وفي نقطة البوليس.. وهاجموا الحقول ودمروا وخربوا ما فيها من زرع وقبضوا على من فيها.. وكانت النتيجة الحتمية لصنوف التعذيب الوحشي الذي وقع على أهالي كرداسة هو : الموت . . والجنون . . والصرع ! ! . مات صلاح رزق عبيد في السجن الحربي ومات أبو سريع جحا ومات محمد أبو السعود في القرية وجن أبو عميرة الصابر وأصيب الكثيرون بالصرع.

لم يتوقف التنكيل بعد الثلاثة أيام بل عاشت البلدة 3 أشهر يسيطر عليها الإرهاب وأغلقت المساجد ومنع الأذان وعطلت الصلاة داخل المساجد.

لقد عبر شمس بدران عن غريزة العسكر نحو الناس حينما قال: أنا معي كارت بلانش لتدمير كرداسة وإزالتها من على الخريطة، وسأعطي كرداسة درسا لن تنساه مدى أربعين سنة([7]).

لم يكن هذا التنكيل لعملية إرهابية قام بها أحد من أهالي كرداسة، ولا لتعدي أهالي القرية على ممتلكات الدولة، ولا اعتراض القرية على سياسة الدولة المتبعة، لكن مجرد أنهم رفضوا أن تخطف زوجة من بيتها وفي غياب زوجها.

لقد تحركت جحافل الجيش بكل عتاده ليس بسبب مقتل أحدهم، لكن لأن بعض الضعفاء خافوا على عرضهم فانتهكت كل أعراضهم تحت أحذية عسكر مصر في ذلك الوقت.

كمشيش وإقطاع العسكر

شكل الجانب الاقتصادي بالنسبة للعسكر أهمية كبيرة، ودافعا قويا في التمسك بالسلطة، حيث يصف أنور عبد الملك هذا التحول بقوله: لقد تحول العسكر في عهد عبد الناصر إلى البدل والسيارات الفارهة وتخلوا عن البدل العسكرية والسيارات الجيب من أجل الإمبراطورية التي بدأوا يبنوها لأنفسهم وذويهم.

ولذا – كما يفعل السيسي حاليا – مال عسكر عبدالناصر إلى الاقطاعيين والدفاع عنهم أمام الشعب المسكين.

بدأت معاناة قرية كمشيش – تابعة لمركز تلا محافظة المنوفية – مع مقتل صلاح الدين حسين عضو بالاتحاد الاشتراكي أثناء مشاجرة عائلية مع عائلة الفقي كبار ملاك الأراضي الزراعية بالقرية، حيث سعى الرائد «رياض إبراهيم» – ملك الغابة وأعوانه من مديري الأمن وأعضاء الاتحاد الاشتراكي والمتطلعون إلي السلطة والحاقدون علي العصاميين أو الرأسماليين الوارثين – إلى جعل المنوفية كغابة مرحت فيها الوحوش الضارية تبحث عن كل فريسة لجأت إلي شكوي أو التمست حرية الكلمة أو طالبت بتحقيق منصف وعادل أو استغاثت برحمة أو بشفقة.

حيث الدكتور حمادة حسني في كتابه [جمال عبد الناصر ومأساة كمشيش 1966-1968] الصادر عن دار شمس للنشر والتوزيع، 2011م، صور المشهد المأسوي التي وقعت لهذه القرية لمجرد أن واحد من اتباع النظام قتل في مشاجرة.

قرى مصرية تحت تنكيل العسكرمساء 30 ابريل 1966 وردت إشارة إلي مديرية أمن المنوفية من مركز شرطة «تلا» تفيد بإصابة المواطن «صلاح حسين» بطلق ناري في رأسه أفقده النطق.. وعلي الفور انتقل جهاز البحث الجنائي من مديرية الأمن ومركز شرطة «تلا» إلي مكان الحادث بقرية «كمشيش» لعمل التحريات حول الحادث. كما تولت النيابة العامة اختصاصاتها بالتحقيق في الواقعة للوصول إلي الفاعل.. دون أن يدري هؤلاء ما يدور من خلفهم بعاصمة المحافظة من اتصالات ومشاورات واجتماعات بين متطلعي السلطة وأصحاب المصلحة لتصوير الحادث بصورة مقلقة ومثيرة للقيادات العليا.

وفي صباح اليوم التالي توجه مدير أمن المنوفية وأمين المكتب التنفيذي للاتحاد الاشتراكي العربي للمحافظة وأمين الشباب بالاتحاد الاشتراكي للمحافظة مع مجموعة أخري إلي «إبراهيم البغدادي» محافظ المنوفية وتسابقوا جميعاً في تفجير وتضخيم الحادث، وقام أمين المكتب التنفيذي للاتحاد الاشتراكي وأمين الشباب وعضو مجلس الأمة بإعداد تقرير عن الحادث ثم سافروا إلي مدينة «المحلة الكبرى» وتمكنوا عن طريق عضو مجلس الأمة المقرب للرئيس «عبدالناصر» من تسليم هذا التقرير للرئيس قبيل اتجاهه للمنصة لإلقاء خطابه السنوي في عيد العمال، وقرأه وتجهم وجهه وناوله إلي المشير قائلاً: «شوف يا (حكيم) إيه اللي بيحصل في المنوفية»؟ واطلع عليه المشير «عامر» وأسرع إلي التليفون حيث اتصل بالعقيد «حسن خليل» قائد مباحث الشرطة العسكرية وتحدث معه بحدة وغضب عما تضمنه التقرير وأمره بالتحرك إلي «كمشيش» وبحث الموضوع بطريقته الخاصة وهنا علمت القيادة السياسية العليا بهذا الحادث وبالوصف المبالغ فيه قبل أن تقوم وزارة الداخلية والنيابة العامة بدورها، غير أن مدير الأمن قام بتدوين تقرير على أن القضية سياسية وليست جنائية([8]).

أثناء استكمال وكيل النائب العام «ملاك مينا جورجي» التحقيقات تفاجأ برجال الشرطة العسكرية يطلبون الملف والمتهمين فرفض غير أن مدير الأمن بصحبة رياض ابراهيم صعدوا الأمر، وأعلنوا أن القضية قضية سياسية خطيرة وأن السلطات العليا هي التي تطلب تسليم القضية إلي مباحث الشرطة العسكرية، وأعلن الرائد «رياض» أن لديه معلومات مهمة وأن المتهمين لن يعترفوا إلا علي يديه، ثم أضاف بغطرسة انه مكلف باصطحاب «صلاح الفقي» المتهم الأول بالتحريض إلي قريته ليراه الأهالي وهو في قبضة الشرطة مكبلاً بالحديد وانتهت المناقشة بأن سلمت النيابة العامة «كرهاً» أوراق القضية والمتهمين والشهود!

و في 5 مايو 1966 حضر قائد المباحث العسكرية من القاهرة إلي قرية «كمشيش» ليشرف علي وحشية وبشاعة التعذيب بالقرية، ثم توجه إلي شبين الكوم وطلب عدداً من سيارات النقل والأتوبيسات لتنتقل إلي القاهرة في منتصف الليل معتقلين مكبلين بالسلاسل، وعلي وجوههم وأجسادهم آثار التعذيب من الضرب بالعصي والسياط دون أن تعرف الأجهزة المحلية المختصة شخصيات هؤلاء المعتقلين أو عددهم.

وتوافد كبار رجال الاتحاد الاشتراكي من القاهرة إلي «كمشيش» منهم  «كمال الحناوي» و«عبدالحميد غازي» أمين الفلاحين ورجال المخابرات العامة، وتم حصر ممتلكات عائلة «الفقي»، ووضعها تحت الحراسة، واعتقلت الآلاف وعذبت المئات، وجردت الرجال من شرفهم والنساء من ملابسهن جهاراً نهاراً أمام ذويهم، وقاموا بتصفية أملاكهم ومصادرتها، حيث شكلت لجنة من 38 عضواً يمثلون قيادات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي والقوات المسلحة والمخابرات العامة ومنهم «عبدالحكيم عامر» و«علي صبري» و«صلاح نصر» و«شمس بدران» و«شعراوي جمعة» و«عبدالمحسن أبوالنور» و«كمال رفعت» و«عباس رضوان» وغيرهم، وكانت مراكز القوي من قيادات القاهرة تمسك بخيوط اللعبة ومن كان في الأقاليم ينفذون التعليمات ويتجاوزونها بالتلفيقات والتعذيب والقهر والإرهاب لدرجة وصلت لأقاربهم، واستحدثوا مسمى تحت تصفية الإقطاع الوظيفي أو الإقطاع الاجتماعي بحيث يفصل نصف عدد من هم في مركز عليا([9]).

 

تعامل النظام ورجال الاتحاد الاشتراكي بقسوة بالغة حتى وصل الحال أفراد أن أفراد الأسرة الواحدة أجبروا ليشهدوا زوراً علي آبائهم وإخوانهم وأقاربهم، وبهذه الأساليب وقع الظلم علي مئات من الأبرياء لمجرد وشاية مكتوبة في تقارير غير معلومة المصدر.

استغلت لجان التصفية هذا الأمر حتى أنها كانت فرصة نادرة للإثراء غير المشروع لمئات الأفراد الذين ساهموا في أعمالها لأن كثير من الأموال والمجوهرات دخلت جيوبهم ولم تذهب للدولة.

وظلت اللجنة العليا لتصفية الإقطاع برئاسة المشير «عامر» تصادر الأراضي والمحاصيل والآلات والعقارات والأراضي الفضاء وتعتقل وتحدد إقامة وتسجن وتبعد وتفصل من تشاء دون ضابط أو رابط وفي الاجتماع الأول لهذه اللجنة وضعت خطة لتصفية نفوذ العائلات في الريف، وتم تحديد أسماء أعداء الثورة، وهل تفرض الحراسة علي الفرد المعادي للثورة أم علي الأسرة بأكملها؟ وكانت قرارات اللجنة انتقاماً وتشريداً وتجريماً وحرماناً لأفراد هذه العائلات من أبسط حقوق الإنسان([10]).

الغريب أن السيد «صلاح نصار» رئيس نيابة أمن الدولة العليا في مؤتمر صحفي عقده السيد «عصام حسونة» وزير العدل في 13 مارس 1967 بإحالة (25) متهماً في قضايا الإقطاع إلي المحاكمة وأن النيابة طالبت بإعدام (15) منهم، وبدأت محكمة أمن الدولة العليا المشكلة بقرار رئيس الجمهورية من رجال القضاء وتضم عضوين فقط من العسكريين في نظر قضية «كمشيش» وقررت أن تعيد التحقيق الذي أسفر عن: تأكيد تقارير الطب الشرعي أن المتهمين في قضية «كمشيش» قد عذبوا تعذيباً تقشعر منه الأبدان، وأن آثار التعذيب مازالت علي أجسادهم رغم مضي أعوام علي عمليات التعذيب.. وأن عدد المجني عليهم في قضايا التعذيب بلغ (107) مواطنين وعدد المتهمين بالتعذيب (40) متهماً وتم إخلاء سبيل المتهمين ثم الحكم ببراءتهم بعد ذلك.

وهكذا نكل العسكر بقرية أخرى بل وتدميرها ونهب أموال الناس لا لشيء إلا إرضاء للإقطاعين الجدد من الاتحاد الاشتراكي والعسكر.. ولقد ظلت القضية حتى أعيد فتحها مرة اخرى عام 1976م، حيث جاء في قرار الاتهام بأن المتهمين في الفترة من 3 مايو 1966 وحتي 23 يوليو 1967قيدوا بالحبال وأجلسوهم القرفصاء لفترات طويلة وانهالوا عليهم ضرباً بالسياط والعصي وألبسوا بعضهم ملابس النساء وربطوا علي أفواههم ألجمة الخيل، كما أودعوهم في حظائر الدواجن.. وأودعوا المجني عليهم السجن الحربي وأوسعوا المتهمين جميعاً صفعاً ولكماً وركلاً بالأقدام وأرقدوهم علي بطونهم ووطأوا أجسادهم بالنعال وشدوا وثاقهم إلي فلقات وانهالوا عليهم بالسياط وزجوا ببعضهم في زنزانة مغمورة بالمياه وعرضوا البعض لصدمات كهربائية مما أحدث بهم الإصابات التي ظهرت آثارها بالتقارير الطبية، وكان ذلك جميعه بقصد حملهم علي الادلاء باعترافات كاذبة، كما اتهمت الرائد «رياض إبراهيم» بأنه قبض علي (60) شخصاً واحتجزهم بالسجن الحربي بدون حق([11]).

ويضيف الكاتب أحمد رضوان: أن شاهندة مقلد كانت عضواً بالحزب الشيوعي المصري ولم تنته من دراستها الثانوية وتزوجت من صلاح حسين ابن عمتها بعد هروبها من بيت أسرتها وهو شيوعي معروف بالتحرش بعائلة الفقي وابتزازها وقد قدم صلاح الدين أحمد الفقي عمدة كمشيش أكثر من شكوي ضده إلي مأمور مركز تلا ووزير الإصلاح الزراعي ومحافظ المنوفية بتاريخ 14/1/1960 و15/12/1961م، انتهى الأمر بمقتل صلاح حسين في مشاجرة، فأسرعت شاهندة إلي حسين عبدالناصر.. أخو عبدالناصر وزوج بنت المشير عبدالحكيم عامر تستغيث به وتطلب النجدة لأسرة شقيق صديقه القديم الطيار حامد حسين فتحركت الشرطة العسكرية بتعليمات من عبدالحكيم عامر بناء علي طلب زوج ابنته حسين عبدالناصر([12]).

ويوضح الدكتور حمادة حسني الأسباب الحقيقية لقتل صلاح حسين في مشاجرة عادية استطاع الشيوعيين تحويلها لقضية سياسية حيث يقول: فالقتيل ماركسي تزعم مجموعة من أهل البلدة كانت على خلاف وعداء مع عائلة الفقي – كبار ملاك الأراضي الزراعية بالقرية – صاحب ذلك تعرض العائلة لإجراءات استثنائية انتزعت منها أراضيها بل انتهى الأمر بإجبار العائلة على ترك البلدة بالكامل في عام 1961، ولكن صلاح حسين ومجموعته استمروا وعبر تنظيم الاتحاد الاشتراكي في الدعوة إلى الفكر الماركسي مما أثار أهل القرية والشباب المتعلم فتصدوا لمجموعة صلاح حسين.. وانتهى الأمر بمقتله في 30/4/ 1966 في مشاجرة عادية بعيدًا عن الاختلافات الفكرية وعائلة الفق لتبدأ مأساة هذه القرية.

قرى مصرية تحت تنكيل العسكرويضيف، أن أهل القتيل اتهموا عائلة الفقى لكى تأخذ القضية أبعاداً أخرى. وفى نفس الوقت كان نظام عبد الناصر يعانى من مشاكل داخلية وخارجية فاستغل الحادثة على نطاق واسع وتم تصوير الأمر على أنه عودة للإقطاع فدارت عجلة الإعلام الموجه للتأكيد على ذلك، ونوقشت القضية في مجلس الأمة وتم التنكيل بعائلة الفقى وأهل كمشيش 314شخصاً –بالقرية فى -حضور حسين عبد الناصر والذي كان صديق القتيل وصهر المشير عامر رفي نفس الوقت- ثم بالسجن الحربى على مدار عامين، وتتوج هذه الحادثة مجموعة الجرائم البشعة التى ارتكبتها أجهزة عبد الناصر ضد المصريين بدءاً من سحق وتعذيب سجناء الرأي وإهدار كرامتهم مرورًا إلى مذبحة طرة 1957 وكرداسة 1965 وصولا إلى فظائع ما تسمى بلجنة تصفية الإقطاع ومذبحة القضاة 1969م.

وينتهى الدكتور حمادة حسني في كتابه إلى أن جرائم الانجليز في «دنشواى» تتضاءل أمام جرائم النظام الناصري في كمشيش.. وفى كرداسة التي يحكى مأساتها في آخر الكتاب([13]).

في كمشيش عومل آل الفقي نفس المعاملة بكل التفاصيل.. فلم تكن هذه المعاملة استثناء ولا مجرد إجرام أفراد.. بل كانت هي المنهج.. منهج ثورة 23 يوليو التي ما تزال تحكمنا دون أمل قريب في الإفلات من براثنها.. وهو ما سنتعرف عليه في الحلقة الثانية من قرى مصرية تحت تنكيل عسكر عبدالفتاح السيسي.

المراجع:

………………………………………………………….

([1])  عمرو عز الدين: مدخل لقراءة العلاقات المدنية العسكرية في مصر، منتدى العلاقات العربية والدولية، ديسمبر 2015م، صـ2- 5.

([2])  نضال الابراهيم: الدولة العربية صراع العقيدة والقبيلة، أبريل 2015م، https://bit.ly/2ycBd6P

([3])  للمزيد: راجع مذكرات محمد نجيب (كلمتي للتاريخ) خالد محي الدين (الآن أتكلم) عبداللطيف البغدادي، وغيرهم.

([4])  جابر رزق: مذابح الإخوان في سجون ناصر، دار الاعتصام، القاهرة، 1986م.

([5])  جابر رزق: مذابح الإخوان في سجون ناصر، المرجع السابق.

([6])  جابر رزق: مذابح الإخوان في سجون ناصر، المرجع السابق.

([7])  جابر رزق: مذابح الإخوان في سجون ناصر، المرجع السابق.

([8])  ممدوح دسوقي: مأساة “كمشيش” صفحة سوداء في دفتر أحوال الوطن،  5 مايو 2015م، https://bit.ly/2xwb7eT

([9])  المرجع السابق.

([10])  مصطفى أمين: سنة أولى سجن، دار أخبار اليوم، 1991م.

([11])  أحمد حمروش: مجتمع جمال عبدالناصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992م

([12])  مرافعة الاستاذ شوكت التوني المحامي عن المدعى بالحق المدني السيد مصطفى أمين: في قضية التعذيب الكبرى .. رقم 3842 لسنة 1975 جنايات الحدائق.

([13])  حمادة حسني: جمال عبد الناصر ومأساة كمشيش.. 1966-1968، دار شمس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2011م.