في ذكرى وفاته.. ماذا لو رأي “كشك” جرائم السفاح السيسي؟

- ‎فيغير مصنف

أربعة وعشرون عاما مضت والمنابر فى مصر مازالت تبحث له عن خليفة.. عن الشيخ السياسى الشعبى، منذ وفاته فى ديسمبر من عام 1996 والناس فى الشارع حتى الذين اختلفوا معه تفتش بين ذقون شيوخ السلطان، وعمائم العسكر، وميكروفونات دعاة السبوبة عن رجل مثله، لا يتكلم فى الدين بغير علم، ولا يخطب فى الناس بملل، ولا يخشى من تهديدات ضباط أمن الدولة، ولا يتلو آية "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم"؛ ليفسرها تفسيرا متعسفا يُحرِّم به ثورة الغضب ضد الظالمين.
أكثر من مائة كتاب وأكثر من ٢٠٠٠ خطبة مسجلة هي الحصيلة التوثيقية للشيخ عبدالحميد كشك الذي أطلق عليه محبوه لقب "فارس المنابر"، حيث انتمى الشيخ كشك لأبرز مدارس الخطابة في عصرنا الحالي. وقد أثر في الخطباء الذين جاءوا بعده وذلك بأسلوبه الخطابي ومنهجه، حيث كان له أسلوب يشد المستمع إليه ويجذبه بقوة، فكان دائما يفتتح خطبه بحمد الله تعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ثم يورد بعض الدعوات المتتالية التي يرفع بها صوته عاليا، وكأنه يهيئ المستمعين من خلالها ويستحضر انتباههم، ثم يصلي ويسلم على نبينا محمد ويقول: "سيدي أبا القاسم، يا رسول الله، صلى عليك الله يا علم الهدى ما هبت النسائم، وما ناحت على الأيك الحمائم".
ولم يسلم الشيخ كشك من غلمان السفاح السيسي، فقد أدلى مستشار العسكر للشؤون الدينية، أسامة الأزهري، بتصريحات مثيرة لإحدى فضائيات المخابرات، دافع فيها عن صورته، وهو يصافح أحد المجرمين، في وقت هاجم فيه المفكر الراحل سيد قطب، مدعيا أنه منبع التكفير، ووصف خطاب الشيخ كشك، بأنه "هياج وصياح وخطابه سطحي ومبتذل"!

ناطح الصخرة 

ظن الفتى "الأزهري" أنه يمكنه أن يناطح جبلا كالشيخ كشك، فكان كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وهو يتملكه الظن، فقد زعم أن الشيخ كشك اعتمد على الهياج والصياح والخطاب السطحي المبتذل ولا نعرف ما هو خطاب "الأزهري" وقد استمع له المصريون خطيبا للجمعة في مسجد "المشير طنطاوي" وفي حضرة "سيده السيسي" فكانت خطبة سياسية، ليس فيها قال الله وقال الرسول، إنما فيها قال السيسي وفعل، على نحوٍ مثَّل خروجا بها من كونها خطبة للجمعة، إلى تملق سياسي تحت التمرين في مؤتمر فاشل!

وقد كان الشيخ عبد الحميد كشك، فقيرا ولم يشعر بأن فقره "عقدة" تدفعه لأن يبيع دينه بديناه، أو بدنيا غيره، وغيره فعل، فركن إلى الذي قتل الأبرياء العزل، واغتصب حُكماً ليس من حقه، وأفقر شعبا بأكمله فلم يغتن في عهده إلا الجوقة، حيث تضم شلته رجال دين يزينون له سوء عمله ليراه حسنا، ويأتي الهجوم على الشيخ كشك لتكريس نموذج ديني لا يُقاوِم الفساد، بل يتعايش معه، ولا يواجه الظالمين بل يركن إليهم، ولا يصدع بما يؤمر، لكن يُقدِّم خطابا دينيا على مقاس السلطة.
وبالرغم من أن الطاغية جمال عبد الناصر كرمه في إحدى الاحتفالات إلا أن الشيخ كشك انتقد سياساته ووقف بشهامة على المنبر لينتقد إعداماته في حق قيادات جماعة الإخوان المسلمين، ومنهم المفكر الإسلامي سيد قطب؛ حيث قال الشيخ كشك: "يشنقون الرقاب التي قالت لا إله إلا الله، وعبد الوهاب يغني له تسلم يا غالي". كما أن المشير عبد الحكيم عامر أرسل إلي الشيخ كشك من أجل إضفاء مسحة شرعية على إعدام سيد قطب فرفض واعتقل حينها.
ولد الشيخ كشك في شبراخيت بمحافظة البحيرة في مارس 1933، وحفظ القرآن قبل أن يتم العاشرة، ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، وبعدها بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ثم عُين معيدا بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة عام 1957، ولكنه لم يقم إلا بإعطاء محاضرة واحدة للطلاب بعدها رغب عن مهنة التدريس في الجامعة. عمل كشك إماما وخطيبا بمسجد الطحان بمنطقة الشرابية بالقاهرة، وفي عام 1962 تولى الإمامة والخطابة بمسجد عين الحياة، بشارع مصر والسودان بمنطقة حدائق القبة بالقاهرة، ذلك المسجد الذي ظل يخطب فيه قرابة عشرين عاما.
اعتقل الشيخ كشك عام 1965، وظل بالمعتقل عامين ونصف، تنقل خلالها بين معتقلات طرة وأبو زعبل والقلعة والسجن الحربي، وذكر البعض أنه تعرض للتعذيب، وفي عام 1976 بدأ الاصطدام بنظام الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وهو الصدام الذي تصاعد في أعقاب معاهدة كامب ديفيد مع الصهاينة، حيث اتهم الحكومة بالخيانة للإسلام، واستعرض صور الفساد في مصر من الناحية الاجتماعية والفنية والحياة العامة، وقد ألقى القبض عليه في عام 1981 مع عدد من المعارضين السياسيين ضمن قرارات سبتمبر الشهيرة للرئيس، وقد أفرج عنه عام 1982 ولم يعد إلى مسجده الذي منع منه كما منع من الخطابة أو إلقاء الدروس.

نهاية مشرفة

في ظل حكم مبارك، تم منع الشيخ كشك من الخطابة، وعاش تحت الإقامة الجبرية في منزله، لكن كان له خطبة واحدة، حين وقع الزلزال في مصر، فاحتشد المصلون أمام منزله وصلى بهم الجمعة وخطب خطبته الوحيدة في عهد مبارك، وفي عزاء مرشد الإخوان المسلمين عمر التلمساني عام 1986، تحدث الشيخ كشك عن الحاكم الظالم، وكان واضحا أن مبارك هو المقصود. غير أن الشيخ عبد الحميد كشك لم ينتقد فقط آل السياسة بل سخر أيضا من بعض الممثلين، حيث قال عن عادل إمام "كنا ننتظر إماما عادلا فجاءنا عادل إمام".

كانت وفاة الشيخ عبد الحميد كشك ــ رحمه الله تعالى ـ كرامة من عند الله ودليلا على حسن الخاتمة، فقبل وفاته حكى على زوجته وأولاده رؤيا حيث رآى أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال له رسول الله: "سلم على عمر"، فسلم عليه، ثم وقع على الأرض ميتا فغسله رسول الله بيديه، فقالت له زوجته: وهي التي قصت هذه الرؤيا، علمتنا حديث النبي أنه من رأى رؤيا يكرهها فلا يقصصها، فقال الشيخ كشك: ومن قال لك أنني أكره هذه الرؤيا والله إنني لأرجو أن يكون الأمر كما كان، ثم ذهب وتوضأ في بيته لصلاة الجمعة وكعادته، بدأ يتنفل بركعات قبل الذهاب إلى المسجد، فدخل الصلاة وصلى ركعة، وفي الركعة الثانية، سجد السجدة الأولى ورفع منها ثم سجد السجدة الثانية وفيها توفي رحمه الله تعالى، توفي وكان ذلك يوم الجمعة 25 رجب 1417 للهجرة الموافق لـ 6 ديسمبر 1996، وكان يدعو الله من قبل أن يتوفاه ساجدا فكان له ما أراد.
كان الشيخ عبد الحميد كشك ،رحمه الله تعالى، عالما وخطيبا عظيما خطب أكثر من 2000 خطبة دون أن يخطئ مرة واحدة في اللغة العربية، لم يكن يخشى في الله لومة لائم، دافع عن الحق ضد الفساد وكان زاهدا في الدنيا، ليس كمثل بعض مشايخ السلطان الذين زينوا الباطل من أجل الحكام والسعودية خير مثال على ذلك، الشيخ كشك حظي بشعبية واسعة في العالم العربي والإسلامي، بل كان أعظم الدعاة والخطباء في القرن العشرين، حيث كان هو الإمام الوحيد الذي وقف في وجه ظلم السلطة والعسكر في مصر ، وتحدى عبد الناصر والسادات دون خوف ولم يسجل عليه التاريخ أنه ركع لأحد غير ركوعه لله وحده.
وهب الله تعالى هذا الشيخ الكفيف أسلوبا مميزا في الخطابة وصوتتا قويا وعلما غزيرا جلب قلوب الناس قبل آذانهم إليه، كانت كلمات الشيخ رحمه الله تعالى صافيةً من قلبه، تخرج بصوته القوي مدوية في المسجد يسمعها القريب والبعيد، طريقة إلقائه مختلفة تماما عن طريقة إلقاء الخطباء الآخرين. كان الشيخ كشك واسع الاطلاع جدا، كان يقرأ ويخطب في السياسة والحوادث والأخبار والطب والفلك وغيرها، كانت خطبته جامعة شاملة تختلف تماما عن خطب غيره، فبينما كان الشيوخ التقليديون يتحدثون عن نواقض الوضوء، كان هو يتحدث عن الظلم والظالمين وكامب ديفيد والأوضاع الراهنة ببلاده وعن خطايا أهل السلطة والمال والتمثيل وما فعلوه من شرور بالمجتمع المسلم.