جمال نصار يكتب: المصطفى صلى الله عليه وسلم.. الشجاعة والحِلْم

- ‎فيمقالات

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، فقد فرت منه جيوش الأعداء وقادة الكفر في كثير من المواجهات الحاسمة، بل كان يتصدر المواقف والمصاعب بقلب ثابت وإيمان راسخ، ويؤكد أنس بن مالك رضي الله عنه ذلك بما حصل لأهل المدينة يوماً، حينما فزعوا من صوت عالٍ، فأراد الناس أن يعرفوا سبب الصوت، وبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس، رافعاً سيفه قائلاً لهم: «لم تراعوا لم تراعوا»(1)؛ أي لا تخافوا ولا تفزعوا، فهذا الموقف يبين شجاعته صلى الله عليه وسلم، حيث خرج قبل الناس لمعرفة الأمر، وليطمئنهم ويهدِّئ من روعهم.

وحينما تآمر كفار قريش على قتله، وأعدوا القوة والرجال لذلك، حتى أحاط بمنزله قرابة الخمسين رجلاً، ثبت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُصبهُ الخوف، بل نام ولم يهتم بشأنهم، ثم خرج عليهم في منتصف الليل بشجاعة وقوة، حاثياً التراب على وجوههم، ماضياً في طريقه، مخلفاً علياً مكانه.

ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم في الغار مع سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، والمشركون حول الغار، وهو يقول لأبي بكر بشجاعة الواثق بحفظ الله: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40).

وصارَعَ النَّبيَّ صلّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يزيدَ بنَ رُكانَةَ، فصرعَهُ النَّبيُّ صلّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ثلاثَ مرّاتٍ، كلُّ مرَّةٍ على مِائَةٍ مِنَ الغنمِ، فلمّا كان في الثّالِثةِ قال: يا مُحمدُ، ما وَضع ظهري إلى الأرضِ أحدٌ قبلَكَ، وما كان أحدٌ أبغَضٌ إليَّ مِنكَ، وأنا أشهَدُ أنْ لا إلَه إلّا اللَّهُ وأنَّكَ رسولُ اللَّهِ، فقام عنه رسولُ اللَّهِ صلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ورَدَّ عَليهِ غَنمَهُ(2).

وأما عن شجاعته وإقدامه في الغزوات والحروب، فقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، إذا حمي الوطيس واشتد البأس يحتمون برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول علي رضي الله عنه: "كنا إذا احمر البأس ولقي القومُ القومَ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه"(3).

ولما أصاب الصحابة يوم "حُنين" من الأذى والهزيمة ما أصابهم، فرّ بعضهم من أرض المعركة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر، فلقد كان على بغلته، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول بصوت عالٍ: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"(4).

وفي يوم "أُحد"، يوم أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيطر المشركون على زمام المعركة، لم يتزحزح النبي صلى الله عليه وسلم من موقفه، بل وقف موقف القائد القوي الشجاع، والصحابة من حوله يتساقطون، وحوصر صلى الله عليه وسلم من قِبَل المشركين، ولم يكن حوله إلا القلة من الصحابة يدافعون عنه، وبرز منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حينما دعاه رسول الله فناوله النبال وقال له: "ارمِ يا سعد، فداك أبي وأمي"(5).

ولم تكن قوة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته في غير محلها، فهذه عائشة رضي الله عنها تقول: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل"(6).

لقد كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مضرب المثل، ومحط النظر، فهو شجاع في موطن الشجاعة، قوي في موطن القوة، رحيم رفيق في موطن الرفق، فصلوات ربي وسلامه عليه.

 حلمه صلى الله عليه وسلم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حلماً، وأوسعهم صدراً، وألينهم عريكة، وأدمثهم خُلقاً، وألطفهم عشرة، فقد كان يكظم غيظه، ويعفو ويصفح، ويغفر لمن زلّ، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقاً لله.

ومواقفه في ذلك كثيرة، وقد عفا عمن ظلمه وطرده من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه، فقال لهم يوم «الفتح»: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(7)، وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92).

وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر: 85)، فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبه إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا غضب ازداد حلماً، وربّما تبسّم في وجه من أغضبه، جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: علِّمني شيئاً ولا تُكثِرْ عليَّ لعلِّي أعيهِ، قال: «لا تغضَبْ»، فردَّدَ ذلِكَ مراراً كلُّ ذلِكَ يقول: «لا تغضَبْ»(8)، وكان يبلغه الكلام السيئ فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه.

وورد عنه أنه قال: "ألا لا يبلغَنَّ أحدٌ مِنكم عن أحدٍ من أصحابي شيئاً، فإنِّي أحبُّ أن أخرجَ إليهم وأنا سليمُ الصدرِ"(9)، وبلّغه ابن مسعود كلاماً قيل فيه، فتغيّر وجهه وقال: "رَحِمَ اللَّهُ مُوسى قدْ أُوذِيَ بأَكْثَرَ مِن هذا فَصَبَرَ"(10).

وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال: "من كف غضبه كف الله عنه عذابه"(11)، وقال له رجل: اعدل، فقال: "خِبْتَ وخَسِرْتَ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"(12)، ولم يعاقبه بل صفح عنه.

وواجه بعص اليهود بما يكره، فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثلاً قول ربه: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 96).

وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم، ويلاطفهم، ويعفو عنهم فيما يصدر منهم، ويدخل عليهم باسماً ضحاكاً، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنساً وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فواللَّه ما قالَ لي: أُفٍّ قطُّ، ولا قالَ لشيءٍ فعلتُهُ: لمَ فعلتَ كَذا ولا لشيءٍ لم أفعلْهُ ألا فعلتَ كَذا(13).

وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه، أو صاحبه، أو بايعه يجد من لطفه، وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية.