قصة “قناة إسطنبول” واتفاقية “مونترو” تهددان بخامس انقلاب في تركيا

- ‎فيعربي ودولي

رغم تلقين الشعب التركي العسكر الانقلابيين درسا في يوليو  2016 وأجهض انقلابهم ووقف أمام الدبابات، حاول 103 جنرالا متقاعدا تنفيذ ما أطلق عليه في تركيا "انقلابا جديدا" عبر تهديد أردوغان وحكومته إذا تم تعديل الدستور العسكري الحالي ووضع دستور مدني.

وحاول البيان الذي أصدره الجنرالات التخفي وراء حجة سعي أردوغان إقامة قناة إسطنبول الجديدة التي ستكون بديلا ثانيا للمرور في المضائق التركية المحكمة باتفاقات استعمارية منذ انهيار الخلافة العثمانية، والزعم ان هذه القناة ستجلب مشاكل لتركيا بادعاء أن أردوغان سينسحب من اتفاقية مونترو التي وقعت تركيا عقب هزيمتها ما قد يغضب العالم.

وبين عامي 1960 و1980 نفذ الجيش التركي، الذي يعتبر نفسه وصيا علي دستور البلاد العلماني، ثلاثة انقلابات، بينما أحبطت حكومة أردوغان محاولة انقلاب رابعة في 19 يوليو 2016، لهذا يعتبر بيان الجنرالات المتقاعدين الـ 103 الأخير هو خامس محاولة انقلاب فاشلة، لهذا جرى اعتقال قرابة 10 منهم والتحقيق مع آخرين.

الانقلابات السابقة جاءت عقب "مذكرة عسكرية" لا تختلف عن تلك التي أعلنها 103 من جنرالات (أميرالات) البحرية التركية المتقاعدين مساء 3 إبريل 2021، ولو كان هؤلاء الجنرالات في السلطة لحركوا الدبابات فورا ولكنهم سعوا، على ما يبدو، لتحريض الجيش على التحرك.

فالفارق بين المذكرات العسكرية التي واكبت الانقلابات السابقة، والتي هي أشبه بالإنذارات، والمذكرة الأخيرة (الكتاب المفتوح) الذي قدمه الأميرالات، أن الأخيرة جاءت من متقاعدين ليسوا في الخدمة.

وشهدت تركيا خلال الأيام الأخيرة جدلا حول "اتفاقية مونترو" المتعلقة بالمضايق البحرية التركية، والتي أبرمتها أنقرة عام 1936، بعد بيان وقّعه جنرالات متقاعدون بالبحرية التركية وحذّروا فيه بلهجة لم تخلُ من التهديد، من تنفيذ مشروع "قناة إسطنبول" لما قد يكون له من عواقب "تتمثل في خروج تركيا من الاتفاقية"، حسب تحذيراتهم.

وقد قوبل بيان العسكر المتقاعدين بحسم شديد من قِبل الجهات القضائية والتنفيذية وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان، بسبب ما تضمّنه من عبارات تهديدية تذكّر بـ"البيانات التي سبقت الانقلابات العسكرية التي عانت منها تركيا" لعقود طويلة، حسب تعبير أردوغان.

الرئيس التركي قال إن البيان "لا يمكن وصفه بأنه حرية تعبير" وإنه "له تداعيات انقلابية خبيثة"، ونفي وجود "أي خطط للانسحاب من اتفاقية مونترو".

أيضا أكّد أن مشروع "قناة إسطنبول" الذي أعلنت عنه الحكومة التركية قبل أعوام بوصفه أحد المشروعات القومية الكبرى وتستعد للمضي قُدما في أولى الخطوات العملية في تنفيذه قريبا، لا علاقة له باتفاقية مونترو التي لا تنوي أنقرة مراجعتها أو الخروج منها في الوقت الراهن.

كما وصفه وزير الخارجية التركي مولود جاوش في حوار مع  قناة "أ – خبر" 4 إبريل 2021 بيان العسكر بأنه "أسلوب يستحضر انقلابا" لأنها "بمثابة مذكرة عسكرية"، واعتبر المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن الكتاب المفتوح "يُذكر بزمن الإنقلابات".

وقال لهم رئيس دائرة الاتصالات برئاسة الجمهورية، فخر الدين ألتون عبر تويتر: "أعرفوا حدودكم"، وذكرهم بـ "كيف داس الشعب علي الانقلابيين عام 2016".

قناة إسطنبول واتفاقية مونترو

ولكن ما قصة قناة إسطنبول واتفاقية مونترو التي أثير مؤخرا جدلٌ حولها هي والمضايق البحرية التركية، على خلفية بيان الجنرالات السابقين بلهجة تحذيرية من علاقة مزعومة بين الاتفاقية ومشروع قناة إسطنبول؟

اتفاقية مونترو هي اتفاقية دولية وُقِّعت في سويسرا عام 1936، من قبل حكومات تركيا وبريطانيا وفرنسا واليونان والاتحاد السوفيتي وبلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا واليابان وأستراليا، لتنظيم حركة مرور السفن عبر مضيقي البوسفور والدردانيل التركيين، وتشتمل على 29 بندا و4 ملحقات وبروتوكول واحد.

وأعطت الاتفاقية أنقرة الحق في السيطرة على المضايق البحرية الواقعة في نطاق سيادتها وتسليحها، على أن تكفل حرية المرور التامة للسفن التجارية التابعة لكل بلدان العالم في أوقات السلم والحرب، وأن يُسمح بمرور السفن الحربية للدول المطلة على البحر الأسود دون أي قيود.

بالإضافة إلى ذلك، تحدد الاتفاقية رسوما منخفضة نسبيا يمكن لتركيا تحصيلها من السفن التي تمر في مضايقها وأهمها البوسفور والدردنيل، وهنا تأتي أهمية "قناة إسطنبول" التي تعتزم أنقرة شقّها لتكون قناة موازية لمضيق البوسفور الرابط بين البحر الأسود وبحر مرمرة.

"لا علاقة لها بالاتفاقية"

وبالإضافة إلى أن القناة المزمع شقّها ستخفف الضغط كثيراً على البوسفور، فإنها لن تكون مشمولة في اتفاقية مونترو، وبالتالي يمكن لأنقرة تحديد الرسوم بحرية أكبر، على السفن التي تود المرور من القناة الجديدة.

وتذهب بعض التقديرات إلى أن "قناة إسطنبول" يمكن أن تجلب إلى تركيا عوائد تصل قيمتها إلى 8 مليارات دولار، حال مرور ما يقرب من 185 سفينة يوميا منها حسب الخطط والتوقعات الحكومية، وهو مبلغ ضخم من شأنه تعويض تركيا عن ما تخسره بسبب الرسوم المنخفضة لعبور السفن من "البوسفور"، وفقا لاتفاقية مونترو.

انطلاقا من ذلك، أكّد أردوغان أن ربط "قناة إسطنبول" باتفاقية مونترو لا أساس له من الصحة، وأوضح: "ربط قناة إسطنبول البحرية باتفاقية مونترو خطأ كبير، فالقناة ستخفف العبء عن المضايق، وستتيح لتركيا بدائل سيادية أخرى بمعزل عن القيود التي فرضتها اتفاقية مونترو".

أردوغان لفت أيضا إلى أن بلاده ليست لديها أي نوايا في الوقت الراهن، للخروج من الاتفاقية، بل تحدّث بإيجابية عن أهمية المكتسبات التي حققتها تركيا من اتفاقية مونترو التي "ستواصل أنقرة التزامها" طالما كان في ذلك تحقيق لمصالحها.

الأمر في الحقيقة لا يتعلق بمضمون البيان الذي يمكن أن يكون موضوعاً للنقاش الفني حول أهمية كل من اتفاقية مونترو وقناة إسطنبول، بقدر ما هو مرتبط بآلية الطرح الذي خرج في صيغة بيان موقّع من قادة عسكريين سابقين بلهجة تهديدية، وهو ما يعيد إلى الأذهان التاريخ السيئ لتدخل العسكريين في الحياة السياسية التركية والانقلابات التي ذاقت الجمهورية ويلاتها على مدار عقود.

تلك النقطة عبّر عنها الرئيس التركي بوضوح في كلمة ألقاها ردّاً على البيان الذي اعتبره "يتضمن تلميحات انقلابية.. وناجماً عن نيات سيئة" لموقّعيه.

وأضاف أردوغان أن مثل هذه الخطوات وإن كانت صادرة عن ضباط متقاعدين، تعد "إساءة كبيرة للقوات المسلحة التركية"، مشيرا إلى أن "جميع الهجمات التي استهدفت الديمقراطية في تركيا جاءت عقب مثل هذه البيانات".

على نحو أوضح، نوّه الرئيس التركي إلى أن بعض الضباط الموقعين على البيان، أدلوا بتصريحات مشابهة منذ فترة طويلة عبر وسائل الإعلام، ولم يتعرضوا لأي مضايقات من قِبل الدولة، إذ إن تلك التصريحات تندرج تحت بند حرية التعبير "أمّا إصدار بيان في منتصف الليل فهو سلوك يعبر عن نيات سيئة".

الخلاصة

خلاصة الأمر هي أن العسكر المتقاعدين سعوا لاستعادة مجدهم العسكري الضائع في التحكم في تركيا ودستورها وأنهم هم الأوصياء على تركيا ودستورها وقنواتها المائية ومحاولة النمسح بقميص أتاتورك مرة أخرى للعودة بوضع خطوط حمراء لحكومة أردوغان ألا يخالف العلمانية في دستوره الجديد وألا يخرج عما وقعه أتاتورك في اتفاقية مونترو.

العسكر سعوا لفرض نظرية تقول إن دساتير تركيا يضعها العسكر وأن على تركيا الاستمرار في السير في دستور 1982 الذي وضعه العسكر عقب انقلاب عسكري وعدله أردوغان مرتين ويسعى لتغييره بالكامل هذا العام بدستور مدني جديد.

هي المرة قد يكون بيانهم وبالا عليهم ويدفع أردوغان لاجتثاث ما تبقى من العسكر الخونة في الدولة ومحاكمتهم وترخيص معالم الدولة المدنية الديمقراطية.