محمد ثابت توفيق يكتب: هل يرتاح ناكرو أفضال أبويهم؟!

- ‎فيمقالات

كانت فتاة يانعة قدمها لمجالها الذي يترتب عليه المال والشهرة والنفوذ وإبعاد أصحابه عن أرواحهم في المقابل؛ قدمها للناس أبوها الأعرق قدمًا والأثبت قدرة وكفاءة ودورانًا في دهاليز المجال وبالتالي معرفة بما يحبه الملايين، وفي وقت قياسي كانت أكثر من مشهورة يُشار إليها بالأصابع وتفرغ الجيوب من عزيز الكسب لأجل إطلالتها وكلماتها فحسب، ورغم تحفظنا على مهنتها وضروراتها لكن يعنينا -كبشر ضعفاء محاولة تتبع أطراف الحكمة من جميع أهدابها وأطرافها- أنه كم من آية وحكمة وعظة في هذه الحياة الدنيا يمكن التوقف أمامها وفهمها حتى لو لم يرد أصحابها؟ أما "هي" فرأت أن أباها يريد احتكارها وتسيير حياتها لحسابه منذ البداية لا كما تريد وتحلم وتشاء؛ ومع الأيام ذهبت إلى ما هو أبعد وأكثر إرهاقًا للرجل الذي كلف نفسه عناء توجيهها وصقلها فقد رأت نفسها "موعودة" بشهرة ومكانة وأموال وسلطة أكثر من أبيها؛ وحين اختارت الأقرب إليها من الشباب كزوج اعترض الأخير بوضوح وصراحة ؛ فكان أن ذهبت لما هو أبعد لما تزوجته بالفعل دون حضور الرجل، فما دارت عليها سنوات قليلة حتى طلقها الرجل الذي باعت من أجله الاستقرار والأسرة والدفء والحنو والشفقة والتوجيه والأمان الدائم.

لم ترتدع ولم تزجرها التجربة أو تنهاها عن الاستمرار في طريقها ولم تكتف بابن خلفته الزيجة الفاشلة لينشأ في كنفها بل تمادت في غيظ أبيها فكان الزواج الثاني والثالث وهلم جرًا، وبالتالي صار لها أكثر من ابن من علاقات زوجية انتهت دون عودة ومنازعات في المحاكم يطول شرحها، وحتى بعد سعي الأب لمصالحتها طالبًا منها مجرد إشعاره له بأن له وزنًا في حياتها لم تعرف قدماها طريقها إلى أحضانه حتى توفاه الله تعالى، ومن بعده أبعدت أختها عن مجالها بقوة وضراوة وخوفتها من الله تعالى لكنها لم تتعظ من وفاة نفس الأخت المبكر في حادث سير، وبقيت في النهاية كما أرادت لنفسها لكن بلا روحها القديمة حتى أنها صارت تبكي بمرارة أمام عشرات الآلاف كلما جاءت سيرة الاستقرار والطمأنينة والراحة النفسية شبه المقيمة؛ وأبدًا لم تعترف بأنها تواصل مسيرة أخطاء بدأتها منذ عقوق أبيها.

في فتوته وبداية انتقاله من الصبا والطفولة إلى الشباب والينوع أخبر الفتى ـ هذه المرة ـ والدته أنها لن تساهم بحال من الأحوال في اختيار زوجته في المستقبل؛ وكان أن نفذ رغبته، بعد سنوات بعيدة، فتزوج من ابنة مسئول كبير سابق؛ ورغم ترحيبها وأبوها به؛ إلا أنه كان يجد لديهما إهمالًا متعمدًا لأبويه؛ فلم يتوقف أمامه ومع مرور الأيام فهم أنه مقصود لتذكيره بالفارق بين مستويي الأسرتين السلطوي رغم تقاربهما المالي؛ وفي غربة جمعت الجانبين لأسباب خاصة دفعتهما الظروف إلى أن يقيم الشاب مع زوجته في بيت أسرته الواسع؛ ورغم تفاني والدته في خدمتيهما وعدم بوحها واعترافها بما تلاقيه من الابنة المدللة التي صارت زوجة مع أنها ما تزال لا تعرف من الحياة سوى استمرار التفوق العلمي على حساب العناية والاهتمام بالزوج ثم الابن وإشعار أبويه بأهميتهما. اضطر أبوه هذه المرة لما شعر هو الآخر بعدم الراحة إلى إعلان رغبته في استئجار شقة خاصة به وبزوجته؛ مما فهمه الابن على الفور على أنه طرد له ولزوجته من بيت أبيه فاستأجر الشقة التي تعلوه ربما في حب لأن يكون قريبًا منهما، إلا أن شجاراته مع زوجته ورفضها طهي طعام له والاعتماد على الوجبات السريعة الجاهزة غير الصحية مع إبقاء ابنها الصغير قرابة نصف الأسبوع مع والديها ونحو النصف الآخر مع والديه والاكتفاء باستقباله يوم الإجازة؛ ورفضها حتى أن يحضر زوجها بنفسه الطعام الخاص به في شقته ـ لكي لا يفسد لها نظام وترتيب المطبخ ويضطرها إلى تنظيفه من بعده على حد قولها ـ؛ ومع تعدد صوري الشقاق وعدم الوفاق لم يجد الشاب غضاضة ولا حرجًا في ليلة غير بعيدة جدًا عن زواجه في أن يقبل يد أمه ويعترف لها بخطئه الشديد لما اختار زوجة دون أخذ رأيها بل ترشيحها لها من الأساس.

لعل صاحب القصة الثالثة والأخيرة كان أعقل وأكثر استفادة من سابقيه؛ ومن الدرس الصغير المبكر الذي حل بحياته فقد كان يقيم في بيت ريفي بالمفهوم المعروف القديم وأراد ذات ليلة النزول للعب فاستوقفه أبوه قائلًا في حزم:

– ألا تكمل استذكار دروسك؟!

فما كان من الرجل ـ الذي كان فتى وقتهاـ إلا أن رد دون معرفة بما يقوله على وجه الدقة فصرخ بأنه لن يستذكر دروسه، وأتبع الكلمات بأخرى تعتبر تجاوزًا وخروجًا عن مقتضى وضرورات الأدب والاحترام بخاصة لما تقال لأب؛ وفور أن نطق بالكلمة انتظر عقاب أبيه المشهور بالشدة والحزم؛ فمازاد الأخير على أن أطلق لضحكته العنان حتى ظن الابن أن شر أصاب أباه فوقف في مكانه غير قادر على مجرد الحركة حتى هدأ الأب فقال له:

– يا بني أثبت هذا اللفظ لي مجددًا عدل الله تعالى فقد قلتُه لأبي ـ جدك ـ وفي هذا المكان تمامًا!

فهم الابن الدرس ووعاه جيدًا فلم يحب أن يقول أو يغضب أباه إلا للملم أو ما يصدر عن البشر دون قصد أو ترتيب أو إضمار.

ويبقى أن أمر طاعتنا لأبوينا قرنه الله تعالى وجعله بعد عبادته مباشرة إذ يقول في محكم التنزيل: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (الإسراء: 23)، ونقل الطبري رحمه الله في تفسيره عن بعض السلف الصالح قوله في الآية: أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه، فهذا قضاء الله العاجل، ونُقِلَ عن "(أن) الحكمة (منها): من أرضى والديه: أرضى خالقه، ومن أسخط والديه، فقد أسخط ربه".

أي أننا –باختصار- أمام معنى يجب أن ننتبه إليه جيدًا فإن سعادتنا مرهونة برضى الله تعالى عنا وذلك لا يكون إلا برضا الوالدين فكيف ينتظر البعض أن يسعد في هذا الوجود -دنيا وآخرة- دون أن يُرضي والديه؟!