ياسر الزعاترة يكتب: عن التصوّف والسلفية و”الإسلام السياسي”

- ‎فيمقالات

لم تكن وقفة الداعية السلفي محمد حسين يعقوب أمام القضاء مؤخرا، كشاهد؛ ما لبث أن تحوّل إلى متهم، بلا دلالة، بقدر ما تمثّل تعبيرا عن توجهات جديدة في الفضاء العربي، الأمر الذي أشرنا إليه مرارا، ولا بأس من استعادته من جديد.

استعادة الخلفية التاريخية لصعود التيار السلفي بطبعاته المتعددة ليست نافلة هنا، بل لعلها ضرورة لفهم المشهد الراهن.

للصعود المذكور أبعاد عدة لا بد من ذكرها، لعل الأول منها يتمثّل في اتساع حالة التديّن نهاية الألفية الماضية، ومطلع الجديدة، على نحو لم يُعرف منذ عقود طويلة، بل ربما منذ قرون؛ إذا أخذنا في الاعتبار الاهتمام بالمعارف الدينية، وليس العبادات وحسب.

في هذه الحالة، ورغم أن حركات ما يسمى "الإسلام السياسي"، وفي مقدمتها "الإخوان"، ومن ضمنها قوىً سلفية مسيّسة؛ هي التي صنعت تلك الصحوة، عبر نشاطها الدعوي، والأهم السياسي المعارض للأنظمة والمنشغل بهموم الناس، إلا أن تصاعد مد التديّن، وانشغال تلك الحركات بالسياسة، ما لبث أن ترك فراغا في الساحة الدينية، بادر السلفيون إلى ملئه عبر الدخول إلى عالم الفضائيات والإنترنت، وانتشارهم في المساجد، ووصولهم إلى الطبقات الفقيرة والمهمّشة التي لم تنضمّ للإخوان، تبعا لكون معظم عناصرهم من الطبقة المتوسطة.

لكن ذلك ليس منفصلا عن أبعاد أخرى، لعل أهمها القرار السياسي الذي وجد في التيار السلفي، بطبعته "الجامية" أو "العلمية"، فرصة لتحجيم "الإخوان"، ومن على شاكلتهم، لا سيما أن الأول يتبنى نظرية الطاعة، ورفض انتقاد "ولي الأمر" في العلن؛ الأمر الذي بدا مريحا ومناسبا. وكان أن زاد التيار السلفي من التركيز على هذا البُعد كي يعزز من دعم السلطات لنشاطاته، وهو ما كان بالفعل.

البعد الآخر في الانتشار، يتمثل في التبني السعودي الرسمي (وبعض الخليجي الآخر) لهذا التيار، وتقديم تسهيلات مختلفة له على كل صعيد، حتى رأيناه يخترق حتى الجاليات المسلمة في الغرب، ولا شك أن للمال والدعم دور كبير في الانتشار والتمدّد.

لم ينتبه رموز هذا التيار وهم يشنّون حملتهم على "الإسلام السياسي"، للعبة التوظيف التي تجيدها الأنظمة عبر استخدام تيار ضد آخر، ومن ثم الانقلاب عليه؛ حين تنتهي المهمّة، وهو أمر حدث مع الإخوان سابقا في مواجهة اليسار، وإن اختلف السياق، من حيث أن الطرفين اللذين نتحدث عنهما ينطلقان من ذات المربع الديني.

نفتح قوسا هنا كي نشير إلى أن قدرة الدولة الحديثة على رسم المسارات الفكرية لمجتمعاتها ليست هامشية بحال، وبالطبع عبر سيطرتها على المجال الديني والاجتماعي والثقافي؛ بجانب السياسي.

هنا نأتي إلى دلالة ما جرى للشيخ محمد حسين يعقوب (كذلك الهجوم الذي شنّته قناة سعودية على الشيخ الألباني)، ذلك أنه يعبّر عن نهاية سنوات العسل بين التيار السلفي وبين الأنظمة؛ ليس في مصر وحدها، بل في أكثر الدول الأخرى أيضا.

لقد نجحت مهمة ضرب "الإسلام السياسي" نسبيا؛ عبر عملية سحق شرسة؛ تختلف من دولة إلى أخرى. أما المسار الراهن، فتعبّر عنه نظرية "المستنقع والبعوض"؛ الإسرائيلية المنشأ، والعابدية التطور (نسبة إلى زين العابدين بن علي).

خلاصة تلك النظرية هي أنك لن تتمكن من قتل البعوض من دون تجفيف المستنقع، واخترعها الصهاينة في التعاطي مع حماس والجهاد، وإن فشلوا في شطب حاضنتهما الشعبية، بخاصة أنهما جمعا بين الديني والوطني. أما "بن علي"، فطوّرها بمسمى "نظرية تجفيف الينابيع"، أي محاربة التدين بوصفه يمنح الحاضنة الشعبية لـ"الإسلام السياسي".

في ضوء ذلك، بدأ الميل واضحا نحو نمطين من التدين؛ الأول ذلك الذي يصعب تسميته تديّنا، بقدر ما يمكن وصفه بخطاب ديني، ويذهب نحو "تمييع" الدين، إن جاز التعبير، وإعادة النظر في الكثير من ثوابته، بدعوى التجديد، رافعا شعار الانفتاح على الآخر. بل ستجد عجبا أن بعض مروجي هذا الخطاب يكادون يلامسون حدود الإلحاد، فيما لا يعرف عن بعضهم أي تديّن أصلا، وإن خرج بعضهم من التيارات الإسلامية بمختلف ألوانها.

وفيما يصعب على هذا النمط المشار إليه الوصول إلى الطبقات الشعبية، كونه "نخبوي" الطابع، فإن الحل، وفق تفكير الأنظمة، سيأتي من التيار الثاني، وهو "الصوفي" الذي بدأ يحظى برعايات رسمية.

لسنا من أولئك الذين لا يحلو لهم وصف أتباعه بغير مصطلح "القبوريين"، لأن الصوفية ليست شيئا واحدا، ولها في مواجهة الاستعمار دور مشهود، فضلا عن الحفاظ على الدين في عدد من الدول الإفريقية على سبيل المثال.

وفيما يمكن القول إن جوهر التصوف يتمثل في الزهد والذكر، فإن متابعة بعض رموز هذا التيار راهنا ستكشف أنهم من المنعّمين الذين لا يعرفون للزهد طريقا، لكن ما يهمّ من يدعمونهم هو تبنّيهم لخطاب يُبعد الناس عن السياسة وقضاياها، بل عموم الشأن العام، وبذلك يريحون، وربما يستريحون إذا جاز القول إن السياسة والاهتمام بالشأن العام، لا يورث غير وجع الرأس!!

لعل المعضلة التي تواجهها هذه الاستراتيجية في هذه المرحلة إنما تتمثل في اتساع مدّ الصحوة الدينية من جهة، واستحالة تغييب الناس عن الشأن العام في زمن مواقع التواصل من جهة أخرى، ما يعني أن فرص نجاحها تكاد تكون محدودة، لكنها ستزيد إذا تقاعس الإسلاميون في التصدي لها، وتجاهلوا ما تملكه السياسة من سطوة على عالم التديّن.

أما الجانب الأهم الآخر الأهم، فيتمثل في أن مطالب الإصلاح، والتقاسم العادل للسلطة والثروة لن يدفنها أحد حتى لو انتهى التديّن من المجتمع، لأن كثيرين سيتصدرون المشهد بعد ذلك وسيرفعونه أيضا، وسيلتف الناس من حولهم بكل تأكيد، فمن يعبّر عن هموم الناس هو من سيحظى بثقتهم؛ أيا كانت وجهته، لكنه يكون أقرب إليهم كلما اقترب أكثر من مخزون الوعي لديهم، وهذا هو سر بقاء ما يسمى "الإسلام السياسي" رغم تلك الحرب الرهيبة عليه، والتي لم تنته فصولها بعد.