انقلاب «قيس» وكواليس منطقتنا المنكوبة

- ‎فيمقالات

اعتدنا فى المنطقة العربية أن يقوم العسكر بالانقلابات، لكن أن يقوم بها مدنى، أستاذ للقانون الدستورى، محسوب على الثورة فهذا ما يطرح الكثير من علامات التعجب. ولو كان هذا الشخص مفروضًا على الشعب وانقلب على الدستور لقلنا (وهل تلقى الحدأة بالكتاكيت؟)، لكنه -للأسف- جاء بالانتخاب الشعبى الحر، بل حصل على الأغلبية الساحقة من أصوات مواطنيه (أكتوبر 2019) أمام منافسه «نبيل القروى» وبتمويل ذاتى بسيط رافضًا المنحة المقدمة من الدولة لتغطية حملته بحجة أنه «مال الشعب»!

وقد استبشرت الأمة خيرًا بمجىء الرجل، وقيل وقتها: إذا كانت تونس قاطرة الثورة فهى باختيار «قيس» قاطرة التحولات السياسية الكبرى أيضًا، وتحدث الرجل فى أيامه الأولى -ولا يزال- بلغة عربية رصينة، وبلسان الحاكم العادل، مقتديًا بالفاروق عمر، متبنيًا مطالب الأمة الإسلامية وحقها فى حسم قضاياها المصيرية، فاتحًا بذلك باب أمل كبير ولج فيه كل من يريد لأمتنا التطور والنهوض.

ولم تمر عدة أشهر على توليه الرئاسة حتى تحول إلى أقصى اليسار، وبات شخصًا آخر مثيرًا للجدل غير الذى اختاره «التوانسة»، وبات كثيرٌ من تصريحاته يحيطها الغموض، أشهرها التصريح الصادم لقناة «فرانس 24»، فى يونيو 2020، والذى أكد فيه «أن فرنسا لم تحتل تونس احتلالًا مباشرًا كما فعلت فى الجزائر وإنما وضعتها تحت الحماية»، محللًا الفرنسيين من الاعتذار عن جرائمهم والذى طالب به أعضاء فى البرلمان..

وقد اعتبر البعض هذا التصريح خيانة للوطن وانقلابًا على برنامجه الانتخابى، بل عدُّوا زيارته لفرنسا (22 يونيو 2020) زيارة مشبوهة ولقاء تحضيريًّا لمؤامرة وشيكة على تونس. وجاءت زيارته لمصر (الجمعة 9/4/2021) لتثير غضب الشعوب العربية قاطبة؛ حيث بات من المؤكد أن «قيسًا» دخل المصيدة، وهو ما ترجمه انقلابه المؤسف الذى يفصل بينه وبين هذه الزيارة ثلاثة أشهر لا غير.

ماذا جرى لـ«قيس»؟ وكيف تحول بهذه السرعة؟ وهل خدع الجميع؟ أم أنه مغلوب على أمره؟ الناظر إلى التطورات على الساحة السياسية التونسية يدرك أن هذا الرجل مخادع، قريب الشبه بما يُسمون «النخبة» أو «القوى المدنية» الذين إن قالوا تسمع لقولهم، لكن إذا جدَّ الجدُّ لا ينظرون إلا إلى مصالحهم، وسرعان ما ينْفِضُون أيديهم مما قالوا ولا يجدون فى ذلك أدنى حرج، بل لديهم القدرة على تبرير ما فعلوه والجرأة على اتهام خصومهم ورميهم بالخيانة وعدم الوطنية..

منذ تولى «قيس» وأيدى الإ مارات، وكيل الصهاينة، تلعب فى تونس، وهذا ليس سرًّا بل يعلمه القاصى والدانى، وقد حذره الجميع من هذا التدخل العلنى، فماذا فعل؟ بدأ فى شن هجومه على «النهضة» وشرع فى خلق عدو افتراضى «لزوم الانقلاب»، والنهضة إن هى إلا حزب من بين الأحزاب، ثم بدأ الحديث عن تعاون إقليمى لـ«محاربة الإرهاب».. ثم كان الانقلاب الدستورى المفاجئ الذى لم يكن له أدنى مبرر ولم تسبقه أية أحداث، وقد نصَّب فيه «قيس» نفسه رئيسًا لكل شىء من زعامة الجمهورية إلى قاضى القضاة، وقد ألغى وحلَّ وجمَّد ورفع الحصانة ولم يبق إلا أن يفتح أبواب السجون وينصب أعواد المشانق.

نؤكد أن «قيسًا» أضعف وأعجز من أن يقوم بهذا «السيناريو» بنفسه أو أن تلك فكرته، فالأمر لا يخلو من مؤامرة إقليمية لا تخص تونس وحدها، بل هدفها المنطقة بأسرها: بأن يتم تفريغها من الديمقراطية وتداول السلطة، وألا تنطفئ الحرب ضد «الإسلاميين» أو أى إصلاحيين آخرين، وأن تبقى بلادنا هكذا، لا هى حية ولا ميتة، وأن تقوم جيوشها برعاية هذه الحالة «الإكلينيكية» وقتل وذبح المواطنين إن لزم الأمر، فمن تعاون فله المخصصات الشخصية فضلًا عن التغطية على فشله بإسقاط الديون عنه والتصدق عليه ببعض المعونات، ومن لم يفعل فليلق جزاء المتمرد الذى لن يفلت من الإفشال والانقلاب ثم سجنه وربما إعدامه.

إن مما خفى لعقود وصار متداولًا الآن أن هناك «ريموت» يحرك عروش وجيوش المنطقة، وأن إدارة سطوية عليا توجه قرارات ساستنا وحكامنا ونخبتنا، وأن هذه الإدارة تعادى الإسلام والمسلمين وترى، بعدما جرَّبت كل الوسائل، أن أقصر الطرق لاستعبادنا يكون بتعيين وكلاء لها من بنى جلدتنا يحكموننا ويديرون دولنا.. فهل تنجح المؤامرة وتخضع الشعوب وتموت القضية؟

لا لن يحدث شىء من ذلك، لكن سيحتدم الصراع ويطول بشكل نسبى، وستكون المواجهة أكثر صراحة من ذى قبل.. لكن الأمر فى النهاية سيُحسم إن شاء الله لصالح الشعوب. لماذا؟ لأن اختياراتها ليست سياسية كما يتصور البعض، إنما هى اختيارات عقدية، والشعوب تواقة لاستعادة مجدها القديم الذى لا يوصِّل له سوى طريق واحد: الإسلام، وهو طريق مستقيم لا عوج فيه. قد تكون الأمة قد أُرهقت أو أُجهدت لكنها لا زالت نابضة، واعية مستيقظة، تدافع عن نفسها فلا تيأس أو تتنازل أو تفرِّط.. فى انتظار وعد الله بالنصر والتمكين، لا يخلف الله وعده.