سعيد الحاج يكتب: هل انتهى دور تركيا في أفغانستان؟

- ‎فيمقالات

قلبت التطورات المتسارعة في أفغانستان المعادلات رأساً على عقب بالنسبة للعديد من الأطراف، ولا سيما بالنسبة لحلف شمال الأطلسي الذي خرجت قواته – تحديداً القوات الأمريكية – منها بناء على مفاوضات سابقة مع طالبان.

ذلك أن تسارع تساقط المناطق بيد الأخيرة ثم دخولها العاصمة كابول نفسها دون قتال بعد فرار الرئيس أشرف غني فرض واقعاً جديداً بالنسبة للحلف، وخصوصاً تركيا التي كانت تسعى للبقاء في أفغانستان لإدارة مطار كابول الدولي وتأمينه.

مطار كابول

مع الغزو الأمريكي لأفغانستان، إثر تفعيل حلف شمال الأطلسي (الناتو) المادة الخامسة من ميثاقه والمتعلقة بالدفاع المشترك، شاركت تركيا ضمن قوات الحلف المتواجدة في أفغانستان. لكن هذه القوات لم تشارك في أعمال قتالية، واكتفت بأعمال التنسيق والتدريب وما إلى ذلك، فضلاً عن إدارة وحماية مطار حامد كرزاي الدولي في كابول في السنوات القليلة الأخيرة.

ولأن إعلان الولايات المتحدة رغبتها في سحب قواتها من أفغانستان وبدءها مسار التفاوض مع حركة طالبان لم يكن ليعني التخلي تماماً عن الدور والتأثير في البلاد، فقد عرضت على أنقرة استمرارها في إدارة المطار وتأمينه، وهو ما قابلته الأخيرة بموافقة مبدئية مشروطة ببعض الضمانات والمتطلبات من واشنطن، وكذلك موافقة طالبان على ذلك صراحة أو ضمناً، وهو ما أسماه الرئيس التركي "حقيقة طالبان".

لم يكن مستغرَباً أن تسعى تركيا لإدامة دورها وعملها في أفغانستان، إذ يحقق لها ذلك عدة مصالح ومكاسب ترتبط بالديناميات الأفغانية الداخلية، والشرائح التركية (الطاجيك والتركمان والأوزبك) من الشعب، والعلاقات التجارية والاقتصادية وعمل الشركات التركية، وحالة التنافس بين القوى الإقليمية والعالمية فيها وعليها، وارتباطها الجغرافي والجيوبوليتيكي بالجمهوريات التركية في آسيا الوسطى، وكذلك تأثير ذلك على علاقات تركيا نفسها مع الولايات المتحدة والفرصة التي لمحتها الأولى لتحسينها من خلال ملف مطار كابول.

ولئن تجاوبت الولايات المتحدة مع المطالب التركية بشكل مبدئي ثم وصل الحوار بينهما مرحلة متقدمة بهذا الخصوص وفق تصريحات الطرفين، إلا أن الشرط الضمني المتعلق بطالبان لم يتحقق بل تعقد أكثر مع التطورات الأخيرة.

قلب الطاولة

منذ البداية رفضت حركة طالبان حديث تركيا عن بقاء قواتها في أفغانستان، وقالت إن القوات التركية جزء من قوات الناتو وينبغي أن ترحل معها في إطار اتفاق الحركة مع الولايات المتحدة. وقد صدرت عدة تصريحات وبيان رسمي منها تؤكد جميعها بأنها ستعدُّ أي قوات تبقى على الأراضي الأفغانية قوات احتلال، مهددة باستهدافها.

قالت أنقرة إن موقف طالبان وتصريحاتها صدمتها، لكنها أكدت أيضاً حرصها على التواصل والحوار بهذا الشأن معها. وهو الأمر الذي رحبت به الحركة على لسان أكثر من مسؤول وناطق باسمها، لكن الظروف المواتية لذلك لم تتأمن فيما يبدو.

ذلك أن التطورات الميدانية كانت دراماتيكية وسريعة جداً إلى حد لم يتوقعه أحد. ففي حين كان البنتاغون يتوقع وصول طالبان حدود العاصمة بعد أشهر، كانت قوات الأخيرة تدخلها خلال أيام فقط وبشكل سلمي دون أي مواجهة. وضع ذلك جميع الأطراف، بما فيها تركيا، أمام وضع جديد مختلف جداً، فهل يعني ذلك بالضرورة انتهاء الدور التركي في أفغانستان عند هذا الحد؟ تحليلنا للمعطيات والأوضاع القائمة يقول بعكس ذلك.

فقد حرصت الحركة التي سيطرت على البلاد بعد 20 سنة من غيابها عن الحكم على تقديم صورة مختلفة عن نفسها، مصدّرة رسائل عديدة تؤكد من خلالها أنها مختلفة عما كانت عليه قبل عقدين، وهي رسائل موجهة للداخل والخارج على حد سواء. وقد كانت أنقرة من الأطراف المرحبة بتلك التصريحات، على لسان أردوغان ووزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، معبرة عن أملها في تطبيقها عملياً.

آفاق المستقبل

بخلاف الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، لم تسارع تركيا لسحب قواتها من أفغانستان، بل وبقيت سفارتها في كابول تعمل رغم الظروف المستجدة. وقد كانت تلك رسالة بعدم القلق أو الاستعجال، فضلاً عن أولوية إجلاء المواطنين الأتراك وإعادتهم لوطنهم.

وهي فوق كل ذلك رسالة ضمنية بأن أنقرة لم تتراجع بعدُ عن رغبتها في البقاء في أفغانستان رغم أنها تدرك إلى أي مدى تغيرت الأوضاع فيها في الأيام القليلة الماضية، كما قال تشاووش أوغلو. تصريحات أردوغان للإعلام التركي أكدت على هذا المعنى، أي رغبة بلاده في الاستمرار بإدارة المطار وتأمينه، إضافة لحرصها على الحوار والتواصل مع مختلف الأطراف الأفغانية بمن فيهم طالبان وكذلك أعضاء المجلس التنسيقي وهم الرئيس السابق حامد كرزاي وقلب الدين حكمتيار ورئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية عبد الله عبد الله.

وفي نفس السياق، فقد أوردت صحيفة "حريّت" التركية نقلاً عن مصدر لم تسمّه أن تركيا تتواصل مع طالبان نفسها من خلال ثلاث قنوات، بحيث تجري مباحثات مع جناحها السياسي عبر قطر، وجناحها العسكري عبر باكستان، ومباحثات مباشرة معها بواسطة جهاز الاستخبارات.

من جهة ثانية، ينظر الطرفان لبعضهما البعض وللعلاقات البينية بأهمية بالغة. فإضافة لما سبق تفصيله من مصالح تركية في أفغانستان مما لا يتصور أن تزهد به أنقرة بسهولة، تدرك طالبان حاجتها للأخيرة لا سيما فيما يتعلق بالقبول الإقليمي والدولي الذي يمكن أن تلعب تركيا بخصوصه دوراً محورياً بالنظر لعلاقاتها وعضويتها في الناتو وكذلك فيما يتعلق بعمل الشركات التركية وخبرة أنقرة في التنمية والإعمار والبنى التحتية.

هذا المعنى أكده الناطق باسم طالبان سهيل شاهين في لقاء مع قناة A Haber التركية، حيث أكد أن حركته تريد العمل مع "الدولة الشقيقة" تركيا، قائلاً "نريد إنشاء علاقات جيدة مع تركيا .. ونريد التعاون والمساندة منها".

وعليه، فمن المتوقع أن تجري تركيا لاحقاً حوارات مباشرات مع حركة طالبان، وبشكل أدق مع النظام الجديد الذي سيتشكل في أفغانستان، إذ تؤكد أنقرة في تصريحات مختلف مسؤوليها على ضرورة إشراك كافة الأطراف في العملية السياسية في هذه المرحلة.

كل ما سبق يدفعنا للقول بأن دوراً تركياً في مستقبل أفغانستان يبقى مرجحاً، فضلاً عن علاقات جيدة ومتنامية معها، كما أن استمرار الوجود التركي في مطار كابول لم تُطوَ صفحته بشكل نهائي بل يبقى احتمالاً قائماً وإنْ ضعيفاً، على الأقل في المستقبل القريب وفق تصريحات طالبان الرافضة لذلك.

أخيراً، تشكل أعداد الأفغان المستمرين في دخول الأراضي التركية عبر الحدود مع إيران ملفاً إضافياً ستحاور أنقرة بخصوص الأطراف الأفغانية ومنها طالبان، إذ يشكل الأمر لها إزعاجاً وقلقاً وترتفع أصوات المعارضة الداخلية برفض الأمر واتهام الحكومة بإبرام اتفاق مع إدارة بايدن بخصوصه، وهو ما نفته الرئاسة التركية والسفارة الأمريكية على حد سواء.

لذا، ختاماً، سيستمر اهتمام تركيا بتطورات الأوضاع في أفغانستان، وستكون مآلات تلك التطورات ومن ضمنها شكل الحكومة التي ستنتج عنها عاملاً مهماً في تحديد شكل الدور التركي في أفغانستان مستقبلاً.

والمرجح أن تركيا ستبقى في أفغانستان دوراً و/أو وجوداً ولكن في إطار معادلة مختلفة، بحيث تكون هناك بالأصالة عن نفسها وليس نيابةً عن حلف الناتو وبالاتفاق المباشر مع طالبان أو الحكومة المقبلة في البلاد. وهو أمر يمكن رصد موافقة الطرفين عليه بين طيات تصريحات قيادات طالبان وكذلك على لسان الرئيس التركي الذي أشار لإمكانية إبرام اتفاق مع أفغانستان "شبيه بالاتفاق الثنائي مع ليبيا".