إحسان الفقيه تكتب: تزاوج الصهيونية والإمبريالية الغربية… مشروع ينسف أوهام التطبيع

- ‎فيمقالات

«أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، يا ورثة فلسطين الشرعيين، إن الأمة الفرنسية تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء».
نداء صادر عن نابليون بونابرت إبان حصار عكا عام 1799، مُوجّه إلى يهود العالم، لمساعدتهم في مشروعهم الاستعماري، يحفزهم إلى ذلك بدعوتهم للاستيطان في فلسطين، في ما يعتبر بداية التزاوج بين الإمبريالية الغربية وجذور الصهيونية، قبل أن تولد دولة الاحتلال بقرن ونصف قرن.
من ناحيتها، تجاوزت الصهيونية أطر التصورات اليهودية التي ترى أن اليهود ديانة لا تحدها حدود جغرافية، أو يجمعها نظام دولة يهودية، فساقت يهود العالم بتلموديات خلقت لهم فكرة أرض الميعاد.
وكانت هناك عدة دول مرشحة لأن تكون وطنا لهم، فقد بذل ثيودور هرتزل مؤسس الصهيونية، محاولات للحصول على مكان في موزمبيق، ثم الكونغو، وكذلك الأرجنتين، وقبرص، وسيناء، وأوغندا، ثم كان ترشيح فلسطين نظرا للعلائق التاريخية والدينية الخاصة باليهود في تلك الأرض، فأضفى البعد الديني على المشروع. لم تحتضن الصهيونية فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين إلا في مؤتمرها عام 1905، بعد وفاة هرتزل بعام، وكان قبل ذلك قد واجه رفض حاخامات اليهود، إقامة وحدة سياسية يهودية مستقلة، حتى أن مؤتمر الحاخامات، الذي تم عقده في أواخر القرن التاسع عشر في فيلادلفيا، أصدر بيانا يؤكد على أن لليهود رسالة روحية تتنافى مع إقامة هذه الوحدة السياسية اليهودية المنفصلة.

جاء قرار توطين اليهود في فلسطين متوائما مع الرؤية الإمبريالية الغربية، الرامية إلى زرع جسم غريب في هذه المنطقة، بثقافة مختلفة وأيديولوجية مغايرة، يفتت وحدة هذه المنطقة، ويمنع وحدة أراضيها، ويبقيها ملتهبة وضعيفة حتى يتسنى للاستعمار السيطرة عليها. ومن وراء التوجهات الاستعمارية الغربية قوة دينية تتشابك مع المصالح السياسية وتخدمها، تضفي الصبغة الدينية على المشروع، من خلال استدعاء نبوءات هرمجدون ومجيء المسيح الذي يحكم في الألفية السعيدة، والربط بين ذلك وإقامة دولة يهودية في فلسطين، وتشييد الهيكل على أنقاض الأقصى، باعتباره مقدمة لمجيء المسيح المخلص. فنحن إذن إزاء تحالف صهيوني تلمودي، وغربي إمبريالي بشقية العلماني واللاهوتي، وهو ما ظهر بقوة في قرار الكونغرس الأمريكي في دورته رقم 104 عام 1995، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، الذي تضمن معنى «القدس هي الوطن الروحي لليهودية». يقول الدكتور محمد عمارة عن هذا التزاوج وأثره: «لقد أضفى الغرب الاستعماري على هذا المشروع الصهيوني طابعا دينيا، وجعله ضمن مكونات البعد الديني في الحضارة الغربية». تتفق هذه الشراكة بين الصهيونية والإمبريالية الغربية على أن تفتيت الأمة العربية الإسلامية ضرورة من أجل بقاء إسرائيل، فالمستشرق الصهيوني البريطاني الأمريكي برنارد لويس، الذي عرف بـ»مهندس تقسيم الشرق الأوسط» له مشروع معروف منذ أربعينيات القرن الماضي لتفتيت العالم الإسلامي إلى كنتونات ودويلات عرقية ودينية ومذهبية وطائفية، وضعه أمام الكونغرس في الثمانينيات، وتمت الموافقة عليه وإدراجه في ملفات السياسة الخارجية لأمريكا. هذا المشروع يتضمن تفتيت، باكستان وإيران وتركيا وأفغانستان وشبه الجزيرة العربية ومصر والسودان وسوريا والعراق ولبنان واليمن ودول الشمال الافريقي، والسبب كما أوضح برنارد لويس: «حتى يكون كل كيان من هذه الكيانات أضعف من إسرائيل، فتضمن تفوقها لنصف قرن على الأقل». استراتيجية التفتيت هذه تحدث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شارون في مطلع الثمانينيات، كما نشرت المنظمة الصهيونية بعد ذلك بعام من خلال مجلتها «كيفونيم» هذا المشروع تحت عنوان «استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات».
وعام 1992، عقدت ندوة حول هذه القضية، دعا إليها أحد مراكز الأبحاث الاستراتيجية التابعة لجامعة بارايلان الإسرائيلية، وبمشاركة مركز أبحاث تابع للخارجية الإسرائيلية، وآخر تابع لجامعة تل أبيب، ويلاحظ أن الندوة عقدت في مطلع التسعينيات، أي بعد دخول العرب مع إسرائيل في التطبيع.
ولا يحتاج المتابع إلى مزيد من التدقيق، ليدرك من خلال مسار الأحداث في المنطقة أن محاولات التقسيم تجري بشكل متواصل بالفعل، ومنه ما قد تم بالفعل، حيث صارت هناك دولة في الجنوب السوداني كما تضمن مشروع التفتيت. القضية إذن ليست قضية سلام مع الكيان الإسرائيلي يسمح له بالتعايش السلمي على أرض فلسطين مع جيرانه العرب، هي قضية مشروع عالمي يدمج الغرب الإمبريالي مع الصهيونية التلمودية، لا حد لتوسعاته، وإنما يكون استقرار دولة الاحتلال في فلسطين، الذي يتم عن طريق التطبيع وتفكيك المقاومة هو الخطوة الأولى نحو مد النفوذ العسكري من بعد التوغل السياسي والثقافي والاقتصادي. من هنا ندرك أن المتفائلين بالتطبيع والمبتهجين به يعيشون في وهم كبير، فالتطبيع مع الكيان الصهيوني ما هو إلا مسكِّن مؤقت لصداع يأكل في رؤوس المتخاذلين اسمه فلسطين، ينصرفون عن حقيقة هذا الصراع الوجودي إلى اختزال القضية في حزمة خلافات عربية إسرائيلة، تحل على طاولة المفاوضات من أجل التعايش السلمي الأبدي وطي صفحات الماضي، حتى لا تطالبهم شعوبهم باسترداد الأرض، وحفاظا على العروش التي يرون في البقاء تحت مظلة الغرب أكبر ضامن للاحتفاظ بها. المطبعون ينشدون السلام مع عدو لا يفتر عن إظهار أحلامه التوسعية ويقوم بحشو المناهج الدراسية بعداوة العرب، والأدهى والأمر، أنهم يلتمسون لدى الغرب الإمبريالي رعاية هذا السلام.
ومن أجل إمضاء التطبيع مع العدو الصهيوني، تم الخلط الممنهج بين عداوة الصهيوني المحتل المغتصب، واليهودي كصاحب شريعة سماوية، حتى يكون رفض التطبيع ضربا من التشدد والتعسف والتطرف وعدم التسامح مع أصحاب الملل الأخرى.
إن أشد ما ينسف فكرة السلام الأبدي مع المحتل الصهيوني هو العدو نفسه بأيديولوجيته وأطماعه الاستيطانية والتوسعية، أضف إليها تمركز القضية الفلسطينية في الوجدان الإسلامي والعربي بمعزل عن هرولة الحكومات تجاه التطبيع، وهو ما يضمن بقاء ثقافة المقاومة، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.

…………..

نقلا عن "القدس العربي"