إحسان الفقيه تكتب: مقومات نهضة المجتمعات عند الإمام الماوردي

- ‎فيمقالات

يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي خلال سرده أساليب الغزو الفكري: «تشويه عقائد المسلمين ومفاهيمهم الفكرية، وتشويه النظم الإسلامية، وسائر أحكام الإسلام وشرائعه وأخلاقه، وكل ما يتعلق بالتراث الإسلامي وتاريخ المسلمين».
وقد حظي تراث الأمة الإسلامية وعلماؤها بنصيب هائل من تلك الاتهامات التي تشبه ما اتهم به الذئب وهو بريء من دم ابن يعقوب، ومن أبرزها أن علماء الإسلام، الذين تركوا لنا هذا الإرث الفقهي والفكري الغزير، كانوا بعيدين عن الأخذ بأسباب القوة والحضارة، وأنهم دعاة تخلف عن ركب التحضر والتمدن، جل بضاعتهم تزهيد الناس في الدنيا وحثهم على الإقبال على الآخرة.

ولئن كانت هناك نماذج يصدق عليها هذا الادعاء بسبب الفهم الخاطئ لنصوص الشريعة والتلبّس بضلالات فكرية، إلا أن الحقيقة التي تثبُت كالشمس في رابعة النهار، أن علماء الأمة المعتبرين، أوْلوْا قضايا الإعمار والنهضة وإصلاح شؤون الحياة أهمية بالغة في إنتاجهم الفكري، ولا أدل على ذلك من ابن خلدون، الذي وُصف برائد علم الاجتماع، قد أصبحت مؤلفاته مرجعا في الحديث عن أحوال الدول وقيامها وأسباب سقوطها. وبين أيدينا في هذه السطور عالم جهبذ من علماء الإسلام، الذين اهتموا بالنهوض والإصلاح، وهو الإمام الماوردي، صاحب كتاب «أدب الدنيا والدين»، الذي ضمّن كتابه هذا سردا لأسباب نهوض المجتمعات وصلاح الدنيا، كان مُوفقا في الفكرة والمضمون والعرض، يقول في هذا الجانب: «اعْلَمْ أَنَّ مَا بِهِ تَصْلُحُ الدُّنْيَا حَتَّى تَصِيرَ أَحْوَالُهَا مُنْتَظِمَةً، وَأُمُورُهَا مُلْتَئِمَةً، سِتَّةُ أَشْيَاءَ هِيَ قَوَاعِدُهَا، وَإِنْ تَفَرَّعَتْ، وَهِيَ: دِينٌ مُتَّبَعٌ، وَسُلْطَانٌ قَاهِرٌ، وَعَدْلٌ شَامِلٌ، وَأَمْنٌ عَامٌّ، وَخِصْبٌ دَائِمٌ وَأَمَلٌ فَسِيحٌ».

ست قواعد لانتظام أحوال المجتمعات وصلاحها، ذكرها الماوردي، تنبئ عن فكر عميق، وفهم للسنن، ودراسة وافية للتاريخ وأحوال الدول، فصل فيها القول بما يمكِّن القارئ من هضم مقصوده والتفاعل مع مكونات خطابه. أول هذه القواعد (دين مُتَّبع)، وعلل الحاجة إليه من منظور إيماني واجتماعي في آن واحد، فالدين «يَصْرِفُ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَيَعْطِفُ الْقُلُوبَ عَنْ إرَادَتِهَا، حَتَّى يَصِيرَ قَاهِرًا لِلسَّرَائِرِ، زَاجِرا لِلضَّمَائِرِ، رَقِيبا عَلَى النُّفُوسِ فِي خَلَوَاتِهَا، نَصُوحا لَهَا فِي مُلِمَّاتِهَا، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُوصَلُ بِغَيْرِ الدِّينِ إلَيْهَا، وَلَا يَصْلُحُ النَّاسُ إلَّا عَلَيْهَا». وهو هنا يبين حاجة المجتمعات في رحلة نهوضها وصلاحها إلى الضمير الحي والسيطرة على الأهواء وحظوظ النفس، والواقع أن غياب هذه القيم هو من أعظم أسباب الفساد التي ضربت في مجتمعاتنا اليوم، ونعاني منها بشكل واضح، يتمثل في فساد الذمم والرشوة، وتأخير ذوي الكفاءات، وعدم إتقان العمل ونحو ذلك. وما ذكره الماوردي يتوافق مع قوانين النهضة التي تحدث عنها علماء الاجتماع، وبيان حاجة النهضة إلى الدين، ومنهم

المؤرخ والفيلسوف البريطاني أرنولد توينبي، الذي قال: «إذا ما ألقينا ببصرنا على الحضارات التي ما برحت قائمة حتى يومنا الحاضر، نجد أنه يكمن وراء كل منها نوع من العقيدة الدينية العالمية، وعلى هذا النحو تصبح العقيدة الدينية جزءا من نظام الاستيلاد الحضاري». وفي هذا السياق يؤكد الماوردي في صلاح المجتمعات وشؤون الدنيا على ثنائية إصلاح الدنيا والعمل للآخرة، حيث نقل عن بعض الحكماء قولهم إن الأدب أدبان: أدب شريعة، وأدب سياسة، فأدب الشريعة أداء الفرائض، وأدب السياسة ما عمّر الأرض. فجعل الماوردي هذا التلازم ضرورة لصلاح الدنيا ونهضة المجتمعات، لأن المجتمع بحاجة إلى مرجعية خارجة عن إطاره البشري، ليست نتاجا لتجربة أو قوانين العقل والمادة، بحاجة إلى مرجعية تحدد معايير الحسن والقبح، يرتكز عليها في صياغة تصوراته ونظامه الحياتي، وهو ما سماه العالم الموسوعي الراحل عبد الوهاب المسيري بالمرجعية النهائية، التي هي سابقة على كل عقد اجتماعي، ويعني بها الدين.

وضع الماوردي «الدين» على رأس القواعد التي تصلح بها شؤون الدنيا في المجتمعات، لأنه الضامن لتوجيه الضمائر إلى الوجهة الصحيحة، ومن ثم يكون هناك رقيب داخلي في كل نفس إنسان، يمنعه الشطط في التعامل مع غيره أو العبث في المصالح العامة. تصلح شؤون الدنيا بالدين ليس فقط عن طريق ارتباط سلوكيات العباد بنظام حياتي ينبثق من الدين يحدد قوانين الثواب والعقاب، وإنما الأهم منه هو ارتباط هذه السلوكيات بالجزاء الأخروي، الذي يحض على إتيان الفضائل طمعا في الثواب، واجتناب المظالم والفساد، خوفا من العقاب، خاصة أن الدين لا يترك الإطار القيمي والأخلاقي فريسة للنسبية ولا للأذواق والأهواء وظروف المجتمعات، وإنما صاغ هذا الإطار وأوضح ملامحه بصورة كاملة شاملة، تصلح لكل زمان ومكان، لأن هذا الإطار رباني المصدر، يراعي الفطرة البشرية. لذلك ليس هناك حاجة تنويرية للفظ الدين أو اختزاله في بعض الشعائر والقيم الروحية، ولو بحجة تعدد المشارب والاتجاهات العقدية في المجتمع الواحد، وإلا كان ذلك تجنيا صريحا على تاريخ يعرفه القاصي والداني، من اندماج المسلم مع غير المسلم في مسار حضاري واحد، فكان بالنسبة للمسلمين مرجعية دينية يدينون بها للخالق في إعمار الدنيا ونيل ثواب الآخرة، وكان لغير المسلمين مرجعية حضارية ساهموا فيها وانتفعوا منها وتميزوا بها في أوطانهم.

الدين كمرجعية دينية للمسلمين ومرجعية حضارية لغير المسلمين، هو الضامن لوحدة الرؤية تجاه النهوض بالمجتمع، وفي هذا السياق يقول الماوردي حول القاعدة الأولى «لذلك لَمْ يُخْلِ (يترك) اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَهُ، مُذْ فَطَرَهُمْ عُقَلَاءَ، مِنْ تَكْلِيفٍ شَرْعِيٍّ، وَاعْتِقَادٍ دِينِيٍّ يَنْقَادُونَ لِحُكْمِهِ فَلَا تَخْتَلِفُ بِهِمْ الْآرَاءُ، وَيَسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ فَلَا تَتَصَرَّفُ بِهِمْ الْأَهْوَاءُ». تلك هي القاعدة الأولى من الست التي ذكرها الماوردي لصلاح شؤون الدنيا، بما يؤكد تعاطي علماء الأمة المعتبرين مع الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عصورهم، والتفكير خارج قفص الانغلاق على فهم الدين، على أن نستكمل في مقالات لاحقة هذه القواعد الماوردية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية