يحيى مصطفى كامل يكتب: انتحار عامل

- ‎فيمقالات

بينما تتجه أنظار العالم أجمع صوب أوكرانيا، منشغلةً بمتابعة الاجتياح الروسي لحظةً بلحظة، ويلتهي الناس في مصر تارةً بمن ضرب زوجته ومبرراته، بما يعكس من ثقافةٍ مجتمعيةٍ وطبقيةٍ ما، ثم يليها شأن تشكيك إعلاميٍ ذائع الصيت ذي حضورٍ ثقيل بقصة المعراج، ويصبح (أو لعله صار منذ زمنٍ بعيد) ذلك هو ما يشار إليه بـ”الشأن العام”، أقدم عاصم عفيفي عبد المعبود العامل في قسم التركيب في شركة يونيفرسال، على الانتحار لتراكم الديون عليه، وانعدام مقدرته على السداد أمام ملاحقة دائنيه، في ظل تعنت الشركة عن صرف مستحقات العمال، على الرغم من المطالبات المتكررة.
لم يجد طريقاً آخر إزاء العجز وقلة الحيلة والقهر والهوان، التي تسحقه جميعاً؛ لست هنا أضع كلماتٍ على لسانه، فقد جاء بعضها حرفياً في نص الرسالة التي تركها قبل أن يقدم على إنهاء وجوده في هذا العالم الظالم، الذي لم يرحمه بعد أن اعتذر من الناس وطلب السماح.
ينظر الناس بعيداً، صوب أوكرانيا التي لم تطأها أقدام الغالبية العظمى في حياتها (وعلى الأغلب لن تفعل)، ويلتهون بقضايا عقائدية، لا تتوفر للكثيرين معرفةٌ عميقةٌ بها، ولا سبل الوصول إليها، بينما ينصرفون عما يمسهم بصورة مباشرة ويشبههم، في الشكل والخلفية والظرف الاجتماعي، في العوز والضيق والدين بذله، وما يهدره من الكرامة، في انسداد الأفق. ربما هناك سبب وجيهٌ وراء ذلك، ربما كان ذلك “الشأن العام”، الذي لا يمس العوام، أقل تكلفةً بكثير، بل هو ذلك تحديداً. برحيله ذكرني عاصم عفيفي بانتحار سارة حجازي في مهجرها، وغيرهما كثيرون ينهون حياتهم أو يرتكبون جرائم بشعة كثيراً ما يكون ضحاياها ذووهم، ينفسون بهذا عن غضبهم الهائل، ويعبرون عن يأسهم وعجزهم، يمزقون ويتمزقون. إن دلالة ذلك لمرعبةٌ بقدر ما هي بشعة، إذ يستبين أن السواد الأعظم ( والطبقة العاملة بصورةٍ خاصة) عالقٌ في أخدود، أمامه نظامٌ يتبنى ويخدم انحيازاً اجتماعياً استغلالياً بدائياً إلى أقصى حد، لا يعرف ولا يعترف بأي حقوقٍ أو ضماناتٍ، ويقوض كل آليات التفاوض والمساومة السلمية، ولو لمجرد تحسين ظروف العمل، في ظل الاستغلال، وهو نظامٌ ضخمٌ متضخمٌ مدججٌ بالسلاح مستعدٌ متأهبٌ، بل يتحين الفرصة، لسحق أي بادرة معارضةٍ منظمةٍ، ولن يتورع عن استخدام أقصى درجات البطش، “القوة الغاشمة” كما وصفها السيسي بغشمه، إزاء أتفه مظاهر الاحتجاج؛ ووراءه لا شيء، الانسحاق أو التوحش أو العدم، إما بقضاء الله أو اختياراً وهروباً بإنهاء الوجود، خاصةً في ظل غياب أي تنظيمٍ حقيقي على الأرض، يلجأ إليه فيستقويان ببعضهما بعضاً. يتعذر إيجاد الكلمات التي تعبر عن مدى الألم والمرارة التي يطفح بها ذلك المأزق الوجودي الرهيب، حيث يشعر الأفراد بأن الارتطام بالدولة منطوٍ على ذلك الكم من اللا جدوى، مدمرٌ ومرعبٌ، إنه يقود إلى عذابٍ وموتٍ بطيء في سجونٍ متكدسةٍ وعطنة، بحيث يظهر إنهاء وجودهم أرحم الخيارات وأقلها عذاباً وألماً. ذلك هو الشرط الإنساني والحال في “الحقبة السيسية”، حقبة ترميم النظام وبعث عنفوانه الذي كان بدماء الأضحيات البشرية، وهو الشرط الذي يجابهنا ويعيش أغلبنا في ظله.

 

لقد أنهى عاصم عفيفي حياته، لكن الناس ملتهون بأوكرانيا وكرة القدم ومشاجراتٍ لا تتناول واقعهم المعاش وبالتالي لا تحل شيئاً، وفي الأغلب الأعم لا تقدم ولا تؤخر، وسرعان ما سيطوي النسيان عاصماً وغير عاصم، وسيلحق به آخرون، فنحن لا نهتم بالحكايات الصغيرة ولا الأحلام الصغيرة، ولا نلتفت إلى حقيقتها الموجعة، إنها تمثلنا جميعاً في مساحةٍ ما، وإننا نستطيع ببساطة أن نتماهى معها، إننا جميعاً مرشحون لأن يلحق بنا هذا المصير وأن ندخل مفرمة هذه الآلة الجهنمية.
هرب عاصم من الفقر والدين إلى العدم، ليتعمق قهر زملائه وترثيه مجموعة من الأحزاب التي تصف نفسها باليسارية والاشتراكية، وهي في الحقيقة تتسول وجودها من النظام، بعد أن دعمت بعثه حين ارتأت التناقض الرئيسي مع الإخوان لا النظام ومن ثم دعمت الانقلاب بدرجاتٍ تتفاوت، من الموافقة الخجولة إلى التطبيل الزاعق، فيسمح من ثم لها النظام بوجودٍ شكلي هزلي ومثيرٍ للرثاء، وقد يهب أحدها، أكثرها ميوعةً ومهادنةً في الخطاب، كرسياً في مجلس قوائم ضباط الأمن الذي يسمونه مجلس الشعب، وليس هذا بمضمون. لست مزايداً عليهم في أي شكلٍ من الأشكال؛ غاية ما هنالك أرى أنه آن لهم، وقد تبين بالأدلة الساطعة أن النظام لن يهبهم أكثر من السماح بشقةٍ يجتمعون فيها ويثرثرون، وحتى هذه غير مضمونة بدورها، أن يواجهوا واقعهم، فإما أن يغيروا من خطابهم الفاتر، الداعم في أحيانٍ كثيرة، الذي يحرص على التصريح من منطلق الحرص على مصلحة النظام واستقراره واستتباب الأمن، أو يحتفظوا بشيءٍ من الكرامة، وعندها يصمتون أو يختارون الحل، أو أن يتركوا أنفسهم للذوبان والتلاشي الذاتي مدينين بذلك النظام بمصادرة كل المساحات.
للأسف لن يعيد ما كتبت عاصماً إلى الحياة، وكل ما أرجوه أن يتوقف النزف البشري والتمزق المجتمعي. على حزني أتمنى أن يكون عاصم ينعم أخيراً بشيءٍ من السكينة والهدوء والصفاء وراحة البال، التي زاغت منه فحُرمها في الحياة، وليتولَ الله وقدر أرجو منه شيئاً من الحنان على أبنائه وأرملته، وليرحمنا الله ولنرحم أنفسنا جميعاً في مواجهة الواقع على قبحه، فنزيح الغشاوة ونرى هذا النظام على حقيقته، ونتخلص من أي أوهامٍ بإمكانية إصلاحه من الداخل بالاستجداء والتوسل.

………….

نقلا عن "القدس العربي"