الجنيه المصري وحقيقة المكتسبات الاقتصادية

- ‎فيمقالات

صدمت وأنا أتابع تصريحات عدد من كبار المسؤولين في مصر حينما اعتبروا أن فقدان الجنيه المصري أكثر من 17% من قيمته بين ليلة وضحاها هو أحد المكتسبات الاقتصادية للحكومة.

وأن خطوة البنك المركزي بزيادة سعر الفائدة والسماح بخفض قيمة الجنيه بهذه النسبة جاءا بهدف الحفاظ على تلك المكتسبات التي حققتها الحكومة خلال السنوات الماضية، إضافة إلى رفع كفاءة مؤشرات الاقتصاد الكلي، خاصة السيطرة على معدل التضخم وجذب الاستثمارات.

لم يقف الأمر عند هذا التصريح، بل راحت وسائل الاعلام تصور التراجع الحاد في قيمة الجنيه مرة أخرى على أنه إنجاز يحسب للحكومة والبنك المركزي، وأن هذا التراجع لصالح الاقتصاد القومي.

فخفض قيمة الجنيه، كما يقول هؤلاء، يساعد في زيادة موارد البلاد من النقد الأجنبي، حيث ينعش السياحة ويزيد حجم الاستثمارات الأجنبية التي تستقبلها البلاد، ويشجع المصريين العاملين في الخارج على زيادة التحويلات المتدفقة على مصر، كما أن خفض الجنيه يجعل المنتجات المصرية جذابة للمستورد الخارجي، وهو ما يزيد قيمة الصادرات المصرية إلى الخارج.

نفس الأسطوانة والمبررات تم ترديدها عقب تعويم الجنيه المصري في شهر نوفمبر 2016 وتهاوي قيمته بنسبة 70%.

ساعتها هللت وسائل الإعلام للقرار ووعدت بتدفق المن والسلوى والمليارات على البلاد والاقتصاد والمواطن، وأن المصريين سيأكلون الشهد والعسل جراء تدفق المليارات عليهم من كل بلدان وأسواق العالم ومنها 100 مليار دولار من قناة السويس وحدها، فما بالك بالمصادر الأخرى من صادرات وسياحة وتحويلات مغتربين واستثمارات أجنبية مباشرة؟

أما عن إيرادات الغاز الطبيعي المليارية فحدث ولا حرج، خاصة وأن مصر بات لديها واحد من أكبر حقول إنتاج الغاز في العالم والأضخم في منطقة الشرق الأوسط، وأن هذه الثروة الغازية ستحول البلاد إلى سوق عالمي لتجارة وتصدير الغاز كما كان يردد الاعلام منذ سنوات وحتى وقت قريب.

وتمر السنوات الست " 2016-2021" فلا يجد المواطن سوى تدفق الأموال الساخنة التي لا تضيف للاقتصاد والمواطن أو سوق العمل والإنتاج والتصدير، بل تحصد تلك الأموال مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب في مصر وتفر بها إلى الخارج.

وكذا دخول البلاد في دوامة قروض لا تنتهي حيث قفزت الديون الخارجية من 45 مليارا في العام 2014 إلى ما يزيد على 137 مليار دولار في نهاية شهر يونيو 2021، وهو آخر رقم معلن من البنك المركزي.

والملفت أن وسائل الإعلام تردد تلك الأسطوانة في الوقت الحالي عقب خسارة الجنيه المصري 17.7% من قيمته هذا الأسبوع ولجوء مصر مرة أخرى طالبة دفعة جديدة من القروض، وكأنها تردد حقيقة قاطعة لا شك فيها.

وتتعامل على أن المصريين يصدقون كل ما يقذف إليهم من معلومات مغلوطة وأرقام مضللة، بل ويصفقون لتلك المعلومات رغم أن الجميع بات يعرف الحقائق عن قرب من الواقع ووسائل التواصل الاجتماعي ورغم حالة التعتيم الشديد على المعلومات.

ما الذي يضير المسؤولين عن إدارة الملف الاقتصادي في مصر إذا خرجوا على الناس واعترفوا لهم بالحقائق كاملة إذا كان هناك بالفعل محاولات جادة لإنقاذ الموقف وعلاج ما يمكن علاجه قبل فوات الأوان.

وأول تلك الحقائق أن مصر دخلت دوامة القروض الخارجية، فالحكومة باتت تقترض مليارات الدولارات لسداد أعباء ومستحقات القروض القائمة، وأنها تفاوض صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة بقيمة قد تتراوح ما بين 8 و10 مليارات دولار وربما أكثر لترفع مديونية الصندوق وحده إلى 34 مليار دولار.

وأن الاتفاق السابق مع الصندوق حقق فشلا ذريعا، حيث قضى على الطبقة الوسطى وأذاق المصريين ويلات الغلاء والبطالة والفقر، ورفع الدين الخارجي لمستويات غير مسبوقة، وأن كل ما فعله قرض الصندوق هو تحسين مؤشرات الاقتصاد ليس إلا، يعنيي تزيين البيت من الخارج، أما من الداخل فالفوضي هي السائدة.

الحقيقة الثانية هو أن هناك إهدارا للمال العام وإساءة استخدام له جرى في السنوات الماضية، وأن هناك مليارات الدولارات تم إنفاقها على مشروعات ولم تؤت أكلها بعد، وربما لا تمثل تلك المشروعات الضخمة قيمة مضافة للاقتصاد والمواطن حتى على المدى البعيد، وأن الأولويات باتت مفقودة لدى الحكومة، حيث باتت تركز على الحجر وتهمل البشر.

أما الحقيقة الثالثة فهي أن مشاكل الاقتصاد المصري والعملة المحلية لم تبدأ مع رباعي الأزمات العالمية وهي كورونا والموجة التضخمية والحرب الروسية على أوكرانيا ورفع الفائدة على الدولار عالميا، وإنما بدأت قبلها بسنوات، وأن الربط بين تراجع قيمة الجنيه بشكل حاد وتلك الأزمات غير دقيق.

اللحظة حرجة، وعلى صانع القرار أن يضع خطة طوارئ اقتصادية يكون فيها المواطن هو المحور الأول الذي يجب التركيز عليه، ويكون توفير السلع وخفض الأسعار هو أولوية مطلقة، يواكبها اهتمام بقطاعات حيوية مثل الصناعة والإنتاج والتصدير والاستثمارات المباشرة والسياحة.