سيدي يوسف القرضاوي

- ‎فيمقالات

لمّا نعى الناعى فضيلة الإمام الشيخ يوسف القرضاوى عزّيت نفسى أولًا فى هذا المُصاب الجلل، ثم عزّيت المسلمين جميعًا، مشفقًا عليهم لرحيل هذا الطود الشامخ الذى كان مرشدًا هاديًا، زعيمًا حكيمًا، علّامة فهّامة، صدق فيه قول القائل: (إذا قال لم يترك مقالًا لقائلٍ… بمُلْتَقطاتٍ لا ترى بينها فصلا؛ شفى وكفى ما فى النفوسِ فلم يدَعْ… لذى إربةٍ فى القولِ جدًّا ولا هزلا)، رحمه الله. ولو جاز لمثلى نعى هذا السيد الكبير لقلت فيه ما قيل فى سادات الأمة السابقين: رحم الله الفارس المغوار، المؤرخ المفسِّر، الشاعر الفيلسوف، الكاتب الخطيب، الأستاذ المحاضر، ذا العقل النيِّر والبصيرة المشرقة والقلب الطاهر، نادرة زمانه وفخر أوانه، ذا المؤلفات العديدة والقصائد الفريدة، الذى اشتهر أمره وبَعُد صيته وظهرت فضائله، فما وقعت العين على نظيره، وما رأينا مثله فى الدأب على العلم، ونشر الوعى، والانشغال بنكبات أمته وقضايا وطنه، والوقوف فى وجه الطغاة مقيمًا عليهم الحجة، فاضحًا استبدادهم وفسادهم.

لم ألتق الرجل وجهًا لوجه، لكن عرفته مبكرًا فأحببته كثيرًا، وشغفت بما كتب فكأنه يتحدث إلىّ؛ دليل صدقه وإخلاصه فيما يخط، وكنتُ منبهرًا في بدايتى بأستاذه «الغزالى»، فلما قرأته وخُضتُ فى أسفاره فاق إعجابى بالتلميذ الإعجاب بالأستاذ -ولا زلتُ أراهما سويًّا كابن تيمية وابن القيم- فالتلميذ -فى نظرى- تفوَّق كمربٍّ؛ إذ لم يكن حادّ العاطفة سريع التأثر، بل كان كبيرًا فى كلِّ شىء، عاقلًا حصيفًا، لم ينجرّ لأزمة ولم تنحرف له بوصلة، إنما كان هينًا لينًا متواضعًا، منشغلًا بما انشغل به العظماء قبله. وفى مرحلة لاحقة شرُفت بإعداد عدد من كُتبه للطباعة لصالح بعض دور النشر، منها السفران العظيمان: فقه الزكاة وفقه الجهاد، فازدادت معرفتى بقدر الرجل.

إنه لم يكن مؤلِّفًا وضع كتابًا ثم سلخ منه كُتبًا أخرى كغالبية الكُتّاب، بل كان رجلًا قرآنيًّا وحبرًا عظيمًا، دؤوبًا متعدد المواهب، ذا لغة متينة وعاطفة جياشة.. لقد حمل علوم الإسلام وفقهه وشرائعه وسيرته ومسيرته، ثم غدا يذكّر الناس بهذا كله، بأسلوب سهل مبسّط يعقله العامىّ كما المتعلم، فكان يكتب السياسة بريشة الأديب، ويكتب الأدب بروح السياسى. وإذا كان فى الأمة من يحمل علمًا يفوق ما يحمله هو؛ فإنه فاق الجميع بفقهه وفهمه، ولأنه لم يكتف بالقول، بل كان عالمًا عاملًا مجاهدًا، جادًّا مجتهدًا فذًّا، غامر بنفسه كى تنجو أمته. إننا فخورون بأننا رأينا هذه الشموس النيرة رأى العين، وأخذنا منها الإسلام كما فاه به المعصوم ﷺ، غضًّا نقيًّا سالمًا من التحريف والغلو، والتساهل والميوعة، وكان الفضل لمجددى الأمة، ومنهم هذا الرجل، فى حفظ الدين، والتجديد له، والتذكير بما اندرس منه، وتعظيم ما يستحق التعظيم وتحقير ما يستحق ذلك، فخورون بمن باع -بصدق- الدنيا فداء لدينه فلم يمُنّ ولم يتباه، بل ظل يُحارب لما يزيد على سبعين سنة وهو يرد على أعداء الدين بمزيد من الثبات؛ بالاعتزاز بالحق، والتنفير من الباطل والتصدى له، وتحذير الناس منه.

إنه لم يكن عالمًا رسميًّا يخشى انقطاع راتبه أو سجنه وملاحقته إذا نطق بالحق، بل كان عالمًا ربانيًّا (رحمه الله) جهر بالحق فى شبابه فسُجن مرارًا وعُذِب وهُجِّر، وجهر به فى أواسط عمره فكُتب من المغضوب عليهم لدى السلطان، وتولى الأقزام ما كان يجب أن يتولاه هو، فلم يندم بل لم يشكُ أو يعترض، ثم كان صوته بالحق أشدّ وهو فى عمره المتأخر، فى عقده التاسع، وكان يمكنه الترخُّص، إلا أنه لم يفعلها، فحُكم عليه بالإعدام وهو فى بلد آخر، وكان تهمته: «اقتحام السجون» إى والله، وهو ابن (87) سنة، ثم صادروا ممتلكاته، وأسقطوا عضويته من هيئة كبار العلماء، ثم سجنوا ابنته لا لشىء إلا لأنها ابنته.. ولسنوات لم ينقطع سيل التشويه والادعاء عليه.. فلم يفتُّ ذلك فيه، ومات (رحمه الله) على ما عاش عليه من خدمة الدين وتبصير المسلمين، محمود السيرة، عزيزًا كريمًا نبيلًا، على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد ﷺ، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين. فاللهمَّ إنّا نشهد، وما شهدنا إلا بما علمنا، أن عبدك «يوسف عبد الله القرضاوى» كان فينا عالمًا مبلِّغًا، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، إمامًا مجاهدًا.. فاللهمَّ بلِّغْه منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا. آمين.