العنف الأسرى.. جاهلية العصر [1]

- ‎فيمقالات

«نظرة عامة»

ابتُليت المجتمعات العربية -فى عقودها الأخيرة- بالعنف الأسرى، بعدما كانت مضرب المثل فى  الرفق والرحمة.. لقد زادت الحالات التى تتعرض للاعتداءات حتى كادت تشكل ظاهرة؛ هذا رغم ندرة المعلومات، ورغم خصوصية ما يجرى داخل الأسرة العربية الذى يُعد -حسب أعراف مجتمعاتنا- أمرًا محرمًا لا يجوز الاقتراب منه. 

ومن هنا تأتى أهمية الكتابة فى هذا الموضوع، فهناك سلوكيات عدوانية، يمارَس فيها الإكراه والترويع داخل الأسر المسلمة التى يفترض أن تكون منارة مودة وسكن للآخرين، وهذا الترويع ينتج عنه أذى نفسى وبدنى للضحايا، يكون مقدمة لتفككات وتفسخات اجتماعية خطيرة.

 والمطالع لما يُكتب حول هذه الظاهرة، التى باتت تهدد منظومة المجتمعات العربية، يجد عشرات المصطلحات التى تصف الظاهرة وأطرافها المختلفة، إلا أننا آثرنا استخدام لفظ (جاهلية العصر)؛ لقناعتنا بأن العنف الأسرى جريمة شنيعة، لا يقوم بها إلا جاهل -مهما كان علمه الدنيوى- قاسى القلب، منزوع  الرحمة، ليس لديه أى وازع دينى. 

إن من يعتدى على إنسان ضعيف؛ بدلًا من أن يمنحه الأمان والحنان، يعد مفرطًا فى كل شىء؛ فى دينه، وفى مسئولياته المجتمعية، وفى الأمانة التى ائتمنه الله عليها.. ومن هنا لا بد من وضع النقاط فوق الحروف فى هذه القضية؛ بالتعريف بها، وبيان مخاطرها، على الأفراد والمجتمعات، وموقف الدين منها؛ كى لا يكون هناك عذرٌ لجاهل فى اللجوء للقسوة والعنف ضد ذوى رحمه. 

ومما لا شك فيه أن هناك أسبابًا طارئة فاقمت الظاهرة عربيًّا، تتبلور فى: أسباب اقتصادية، كالبطالة والفقر والتحوّلات الاقتصادية العالمية وظواهر الاستهلاك والترف وغيرها.. وأسباب اجتماعية كضعف القيم، والتفكك الأسرى، وثورة التنقل والاتصالات.. وأسباب ثقافية وسياسية، كحالات الإحباط والكبت التى أصابت المجتمعات العربية فى السنوات الأخيرة، والغزو الفكرى الذى تتعرض له ليل نهار-إلا أن ذلك لا يبرر الظاهرة، ولا يبرر صعودها المتسارع وأرقامها المخيفة، والتحورات التى تحدث فى أنماط جرائم وحوادث العنف الأسرى؛ إذ إن مجتمعاتنا تدين بدين الرحمة، وخالقنا هو الرحمن الرحيم، ورسولنا هو مَنْ أرسله ربه رحمة للعالمين، ووصفه  -سبحانه- بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]. 

لا بد إذًا من الخروج من دائرة الصمت، إلى حيث البحث عن طرق للوقاية من الظاهرة وعلاج آثارها.. لا بد كذلك من الحديث بشفافية عما أصاب المرأة والطفل العربيين على وجه الخصوص، جراء هذا الصمت، وجراء الاعتراف بعادات وتقاليد جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان، تقنن هذا العنف وتتستر على مرتكبيه. 

وإذا كنا سنركز فى تلك الدارسة على الأطفال والنساء؛ فلأن واقع  الظاهرة عندنا يؤكد أن هاتين الفئتين هما من يقع عليهما الغالبية العظمى من أشكال العنف الأسرى، وأن المتزوجات هن أكثر الفئات النسوية تعرضًا للعنف، وأن الزوج له النصيب الأكبر فى الاعتداء عليها.. وهذا لا يعنى أنه ليس هناك عنف من الزوجات ضد أزواجهن، بل هناك عنف مضاد؛ لكنه لم يصل إلى نسبة تستحق الدراسة، وإن كنا نتوقع أن تزيد هذه النسبة بعد صدور عدد من قوانين الأحوال الشخصية التى مكّنت للمرأة على حساب الرجل وقوامته؛ حيث بدأت النساء فى اللجوء للانتقام من الرجل، بمنعه من رؤية أبنائه، أو مقاضاته من أجل النفقة وغيرها، وهذا -فى رأينا- مما يزيد  العنف ضد المرأة، ويجعل الرجل متربصًا بها طوال الوقت. 

ورغم اعترافنا بفداحة الظاهرة، ورغم تشاؤمنا من حال الأسرة العربية هذه الأيام، إلا أننا ننبه إلى خطورة ما نستورده أو ما يُفرض علينا من حلول لها ولغيرها من الظواهر.. فما يقدمه الغرب لنا لن يخرج عن دوره فى (الاحتلال عن بُعد) الذى يمارسه على بلداننا وحكامنا، وأنه يريد تسويق ثقافته الإباحية على أرضنا، مستهدفًا ثوابتنا وقيمنا.. ولذا فإننا نسعى -بشتى السبل- لحل مشكلاتنا، ومن بينها العنف الأسرى، بأفكارنا ووسائلنا، وليس بحلول الغرب أو الشرق. 

وسيكون تناولنا للظاهرة من خلال الزوايا التالية: تعريفها وواقعها،   وأسبابها ونتائجها، وأشكالها، ثم: موقف الإسلام من العنف الأسرى، وأخيرًا توصيات للوقاية من الظاهرة.