بقلم/ محمد عماد
في الذكرى الحادية عشرة لمذبحة رابعة العدوية، والتي راح ضحيتها آلاف الشهداء من خِيرة أبناء الشعب المصري رجالا ونساء فتية وفتيات، سقطوا أثناء معارضتهم السلمية للإطاحة بالرئيس المصري الأسبق الشهيد محمد مرسي- رحمه الله- قبل 11 سنة من اليوم، في 14 أغسطس 2013.
وتحت إدارة مباشرة من قائد الانقلاب، وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، ووزير الداخلية محمد إبراهيم، ورئيس الوزراء حازم الببلاوي، والرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور.
ورغم مرور عقد كامل على هذه المجزرة، لم يَمْثُل أي مسؤول سياسي أو عسكري أو أمني للمحاكمة، على تلك الانتهاكات الجسيمة التي جرت أثناء فض الاعتصامات، وتسببت في أكبر واقعة قتل جماعي للمتظاهرين في تاريخ مصر على أيدي الأجهزة الأمنية.
والحقيقة أن دولة السيسي التي قامت على دماء الشعب المصري حتى الآن لم تتعافَ من آثار هذه المذبحة رغم مرور 11 عاما، إذ لا تزال أيدي الأجهزة الأمنية طليقة تتعقب المواطنين بلا مساءلة.
ولا يزال المجال العام مغلقا أمام المشاركة السياسية والمجتمعية، ويواجه المعارضون والمثقفون والمدافعون عن حقوق الإنسان والصحفيون، تهديدات متزايدة بالاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون.
وقد اتسعت دائرة الانتهاكات لتشمل مواطنين من مختلف الاتجاهات والانتماءات السياسية والاجتماعية والدينية، وأدرج نظام السيسي الأمني آلاف المواطنين على قوائم الإرهاب، وقوائم الممنوعين من السفر، بتهم واهية، وأصدر أحكاما بالسجن بحق المئات من محاكم عسكرية أو استثنائية، أحكامها غير قابلة للطعن أو النقض، وواصل نظام الاستبداد والفساد والتبعية في مصر انتهاك الدستور والقوانين الخاصة بالحبس الاحتياطي واللوائح الداخلية للسجون؛ فبقي آلاف المعتقلين رهن الحبس الاحتياطي بما يزيد على المدة القانونية (وهي عامان).
بل وأعادت وزارة الداخلية تدوير المُخلي سبيلهم في قضايا جديدة بالاتهامات نفسها، لتواصل احتجازهم في السجون، حيث يُحرم المعتقلون الزيارات والاحتياجات الأساسية من دواء وطعام وأدوات نظافة وكتب.
وعلى مدار العقد الماضي، وثقت منظمات حقوقية مصرية ودولية إخفاء ما لا يقل عن 3000 مواطن قسرا لفترات متفاوتة، ووفاة أكثر من 1200 محتجز، نتيجة سوء المعاملة والإهمال الطبي المتعمد في مقرات الاحتجاز والسجون، والاعتداء جنسيا على أكثر من 655 شخصا من المعتقلين أو عائلاتهم، وقتل أكثر من 750 مواطنا خارج نطاق القانون.
وحتى الآن، في مصر ما بعد رابعة، تشترك أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة، بما في ذلك القضاء ووزارة الداخلية والجيش وحتى المصالح الحكومية والجامعات والمدارس، في تعقب المعارضين السياسيين والتنكيل بهم، إذ تتبع مصر السيسي ما بعد رابعة سلوكا أمنيا عنيفا إزاء مواطنيها، حيث يتم اعتقال المواطنين تعسفيا واحتجاز ذويهم كرهائن وتعذيب المعتقلين بالسجون.
في سيناء؛ تم تهجير المواطنين قسرا لأسباب أمنية، بينما يُعتقل الأقباط بتهم الانتماء إلى جماعة إرهابية، ويتعرض المواطنون للاختفاء القسري، بسبب تغريدة أو منشور على الإنترنت.
وتُحجب المواقع الإخبارية والحقوقية، وتُغلق المكتبات والمؤسسات الثقافية بحجة الحفاظ على أمن الدولة، ويلاحق الصحفيون بسبب عملهم، وتُسجن الفتيات بسبب انتهاك قيم الأسرة المصرية.
ويُحاكم المثقفون والكتاب والناشرون أمام محاكم عسكرية ، ويُعتقل الأكاديميون وقد يُقتلون بعد تعذيبهم من أجل أبحاثهم العلمية، في مصر ما بعد رابعة لا يُلاحق الجناة.
إن المحاولات الأخيرة لنظام السيسي الانقلابي والتي تبدو إصلاحية في ظاهرها، سواء بإطلاق مبادرات مثل الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، أو تفعيل لجنة للعفو الرئاسي عن المعتقلين، أو البدء في حوار وطني يضم قوى سياسية واجتماعية مختلفة، لم تفلح في الحد من الاحتقان السياسي والمجتمعي، وإنهاء أو حتى تخفيف، أزمة المعتقلين السياسيين.
فبينما تشير الأرقام الرسمية إلى الإفراج عن 1400 شخص منذ إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي في أبريل 2022 حتى مايو 2023، تُظهر الإحصاءات الحقوقية اعتقال ما يزيد عن 3700 شخص خلال الفترة نفسها.
هذه الأرقام تبرهن على غياب أي رغبة سياسية في تغيير الوضع القائم، أو إيجاد حل حقيقي للمشكلات الحقوقية العميقة التي يواجهها المصريون.
إن كثيرا من سرديات الأنظمة الديكتاتورية، تقوم على فكرة أن التاريخ ضمن غنائم المنتصر، وهو وحده صاحب الرواية الأحادية غير القابلة للتشكيك.
واعتمد نظام السيسي الانقلابي، على هذه القاعدة في سرده لمرحلة ما بعد الانقلاب العسكري حتى الآن، فهو يقوم بتزيف الحقائق وهو ما حدث في سلسلة الدراما التلفزيونية “الاختيار” الذي عرض على مدار 3 مواسم أعوام 2020 و2021 و2022، وكانت تكلفة الموسم الواحد نحو 100 مليون جنيه (32 مليون دولار).
لكن دماء الشهداء لن تذهب هدرا أمام الآلة الدرامية الأمنية، التي لا تقل في شراستها عن الأسلحة والمدرعات.
إن الفارق بين رواية النظام الانقلابي والرواية الحقيقية، هو الفارق ما بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة، لذلك فشلت كل السرديات المكذوبة الأخرى، التي سعى السيسي ونظامه إلى إقرارها عنوة.
أحد عشر عاما مرت على أبشع جريمة شهدتها مصر في العصر الحديث.
في مثل هذا اليوم حمل الحقد الأعمى والطمع البغيض بعض الموتورين على استباحة الدم الحرام، وقتل ألاف المصريين في وضح النهار في مشهد مفجع لا يزال يدمي قلوب المصريين.
أحد عشر عاما على الجريمة المروعة لم تجن فيها مصر إلا مزيدا من الفقر والضعف والتبعية.
أحد عشر عاما رجعت فيها مصر للخلف عشرات السنين، فأغرقتها الديون وتدخلت في أخص شؤونها قوى خارجية ودول إقليمية كانت وستبقى صغيرة إذا قورنت بمصر.
أحد عشر عاما والمعتقلات النازية تعج بالآلاف من خيرة شباب الوطن ونوابغه، ( وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر).
أحد عشر عاما من مصادرة الحريات وتأميم المجال العام، ووأد الرأي الآخر في ممارسات تنتمي شكلا ومضمونا للعصور الوسطى.
أحد عشر عاما انتقصت فيها أرض الوطن، و انتهكت سيادته وحرمة جواره ورُفعت أعلام أعدائه على ترابه.
أحد عشر عاما أثبتت ما هو ثابت وأكدت ما هو مؤكد، من أن الحكم المدني والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع هما السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والسلام والازدهار، وأن كل تجارب الحكم العسكري انتهت إلى ذات النهاية من الفشل الملفع بالفساد.
في هذه الذكرى الأليمة، نتذكر أولئك الذين فقدوا حياتهم دفاعا عن حرية وطنهم، ونعبر عن تعاطفنا وتضامننا العميق مع أسرهم وأحبائهم، كما نؤكد على أهمية العمل من أجل مستقبل أفضل لمصر، بحيث تكون فيها حقوق الإنسان مصانة، والعدالة هي الأساس، والمواطنون أحرار في التعبير عن آرائهم دون خوف من القمع أو العنف.
ونؤكد أن الطريق إلى المستقبل لا يمكن أن يُبنى على نسيان الماضي، بل على الاعتراف به، والعمل على ضمان عدم تكراره، ومحاسبة كل من شارك في هذه المذبحة.
إن هذه الذكرى تذكرنا بضرورة الاستمرار في النضال من أجل مجتمع حر وعادل وديمقراطي، حيث تكون حقوق جميع المواطنين مصانة ومحترمة.
ستظل دماء الشهداء الأحرار التي سالت في رابعة والنهضة وكل شوارع وحواري مصر ستظل تلاحق السيسي ونظامه القاتل، والمباراة لم تنته ومازالت في الملعب، والجمهور لم ينصرف بل ينتظر ليشارك ويدعم، الأهم أن نواصل بروح الفريق حتى نصل إلى المرمى ونحرز الأهداف معا.
رحم الله شهداء رابعة وكل شهداء مصر وجعل دماءهم الزكية ثمنا للنهضة والحرية والكرامة لشعب مصر أكرم شعوب الأرض وأوفاها ذمة وأنصعها تاريخا.
وحفظ الله مصر من الظلم والفساد والاستبداد وكيد الأعداء وجمع أهلها على كلمة سواء.