وائل قنديل يكتب : كيف تحاصر وسيطاً تفاوضيّاً؟

- ‎فيمقالات

 

 

طرحتْ مصر الرسميّة نفسها منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على غزة وسيطا تفاوضيّا، تحت مظلّة أميركية، من أجل التوسط بين الاحتلال الصهيوني وقيادات المقاومة الفلسطينيّة، ومع الوقت، نجح المُفاوضَ الصهيوني في تجريدِ الوسيط المصري من مؤهّلات الوساطة.

 

يبدو الأمر عبثيّا للغاية، والوسيط المصري يطلب مساعدة مدير لعبة الوساطة، الأميركي، في التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي من أجل إقناعه بالانسحاب من محور فيلادلفيا الواقع بين مصر والأراضي الفلسطينيّة المحتلة، لتتحوّل عملية الوساطة من بحث مصري قطري أميركي مشترك عن صفقة لاستعادة أسرى الاحتلال والتوصل إلى هدنة دائمة أو مؤقتة، إلى بحث مصري، فقط، عن تحقيق انسحاب الاحتلال من معبر فيلادلفيا، الذي استولى عليه مع معبر رفح في عمليّةٍ عسكريّة واحدة، هنا تتحقق حالة الوسيط الذي يبحثُ عن وسيطٍ لتحقيق مطالبه، وهذه حالة تؤدّي، بالطبع، إلى تركّز جولات التفاوض الإسرائيلية في القاهرة على البحث عن حلٍّ لمشكلة فيلادلفيا، ومن ثم تتراجع نسبيًا مسألة غزّة.

 

الطرفُ الصهيوني، كالعادة، بارع في الهروب من قضيّةٍ عن طريق اصطناع قضيّة أخرى، وليس أفضل من إثارة تعديل اتفاقيّة كامب ديفيد بين مصر والاحتلال مهربا سهلا ورخيصا من أسئلةِ العدوان على غزّة، إذ بحسب تقرير مفصّل في “العربي الجديد” قبل يومين، قدّم وفد الاحتلال الإسرائيلي طلباً رسمياً في الاجتماعات بالقاهرة بإعادةِ النظر في معاهدة كامب ديفيد، وإدخال نصوص عبر اتفاقٍ مكتوب يُشرعن سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على محور فيلادلفيا. وتنصّ التعديلات أو الاتفاق المكتوب الذي ترغب فيه تل أبيب على “إشرافها على الوضع الأمني في المنطقة الحدودية من الجانب الفلسطيني”، بما يضمن لها اليد العليا في التصرّف حال وجود ممارسات تراها تُمثّل تهديداً لأمنها، وبما يضمن لها التدخل المباشر في أي وقت لمواجهة أيّة تحديات من دون الحصول على إذن مُسبق من أي طرف.

 

تبعاً للمصادر ذاتها التي تحدّثت إلى “العربي الجديد”، واجهت المطالب الإسرائيلية، التي كانت مُفاجئة، رفضاً مصريّاً قاطعًا، حيث تمسّكت القاهرة بعدم المساس بمعاهدة كامب ديفيد ونصوصها الحالية، وألمح المسؤولون المصريون، بحسب المصادر، إلى أنّ “فتح الحديث عن تعديل المعاهدة يفتح معه الباب لأزماتٍ ربما لن تكون المعاهدة معها قادرة على الصمود”.

 

انتهى الاقتباس وبقيت الأسئلة، وأوّلها: لماذا لا تطلب تل أبيب من القاهرة تعديلاتٍ لمصلحتها في الاتفاقيّة، وقد سبق لها أن تعطّفت على القاهرة قبل عشر سنوات، ووافقت على تعديل الاتفاقية، بناءً على التماسٍ من الجانبِ المصري في أعقاب انقلاب 2013 الذي اعتبرته إسرائيل أهم مكاسبها بعد كامب ديفيد؟

 

بصرف النظر عن أنّ توقيع مصر على اتفاقيات كامب ديفيد أخرجها من معادلات الصراع كليًا، وحوّلها إلى شريكٍ وصديقٍ للعدو الصهيوني. وفي أفضل الأحوال، إلى وسيط بينه وبين الفلسطينيين، فإنّ القاهرة في 2014 اعتبرتْ تعديل الاتفاقية استجابةً لرغبتها، معروفاً إسرائيليّاً، فلماذا لا تطلب تل أبيب ردّ الجميل الآن، وهي التي جاملت النظام المصري الحالي في ملفّاتٍ عديدة، ليس منها ملف القضيّة الفلسطينيّة؟

 

 هنا تحتفظ الذاكرة بتصريحاتِ الجنرال عبد الفتاح السيسي مع إحدى الفضائيات عام 2014، قبل تولّيه الرئاسة، عن إمكانيّة تعديل بنود الاتفاقيّة المقيّدة لحركة الجيش في سيناء، التي قال فيها إنّه لا يسمح بأن تكون الأراضي المصريّة منطلقًا لشنِّ هجماتٍ ضدَّ الجيران (الصهاينة طبعاً)، مؤكّداً أنّ مصر ستفعل ما هو مناسب، وأنّ إسرائيل لن ترفض تعديل الاتفاقية، لأنّها تتعامل مع دولةٍ وجيش، لا قوّة حمقاء.

 

لم يمرّ وقتٌ طويل على هذه التصريحات، وفي الثامن من نوفمبر 2021، أعلن المتحدّث العسكري المصري، غريب عبد الحافظ، على حسابه في منصّة إكس، إنّ مصر نجحت في تعديل “كامب ديفيد”، بما يسمح بوجود الجيش المصري في رفح ليمثّل أوّل إجراء من نوعه منذ توقيع الاتفاقية عام 1978، ثمّ انطلق الخبراء الاستراتيجيون فوق الفضاء التلفزيوني محتفلين بهذا الإنجاز، فقال أحدهم، اللواء سمير فرج، “إسرائيل لا تريد إرهاباً في هذا المكان، وهي تعاونت للقضاء على الإرهاب في سيناء، لأنها تريد أن تتفرّغ لحركة حماس في جنوبها وحزب الله اللبناني إلى الشمال من حدودها. وفي المقابل، يمثل تعديل الاتفاقية انتصارًا للعسكرية المصرية”.

 

جاء الدور على مصر لكي تحقّق رغبة الاحتلال في تعديلٍ مماثلٍ يمنحها السيادة والهيمنة على معبر فيلادلفيا الواقع بين حدود مصر وفلسطين، فيما راح الإعلام الناطق باسم النظام في مصر يمهّد لخطوة كهذه، بتزييف الوقائع والتحايل على التاريخ، بادّعاء أنّ مصر لا صلة لها من الأساس بمحور فيلادلفيا، وأنّه مسألة بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو الكذب المفضوح الذي تنسفه نصوص اتفاقيّة المعبر الموقّعة في عام 2005.

 

الحاصل أنّه، وفي ظلِّ الانكشاف الكامل لحقيقة دور راعي الوساطة الأميركي، كان من المفترض أنّ أطراف الوساطة العربية ستنأى بنفسها عن إحكامِ الحصار الأميركي الصهيوني على غزّة، تحت غطاء الوساطة، وهو الغطاء الذي أثبتت الجولات تلو الجولات أنّه جزء من العدوان على الشعب الفلسطيني، إذ لا تظهر الوساطة إلّا كلّما توقّع الاحتلال خطراً قادماً من جبهاتِ المقاومة المُساندة كفاح الشعب الفلسطيني، غير أن الوفود الأمنيّة الصهيونيّة عادت تتقاطر على القاهرة، الشاباك والموساد، تحت حماية مدير وكالة الاستخبارات الأميركية، بما يبدو معه، وكأنّ الوساطة صارتْ صنما مقدّسا في هذا الزمن العربي العجيب، وليتها احتفظت بجوهر المفهوم الصحيح للوساطة، إذ تحوّلت إلى أداةٍ للحصول على مآرب أخرى، بعيداً عن موضوعها الرئيس: العدوان على غزّة.