“السنن الربانية من الإدراك إلى الحراك”.. قراءة في تراث الإمام البنا

- ‎فيأخبار
الدكتور رمضان خميس غريب

نشر الدكتور رمضان خميس غريب ورقة بحثية حول السنن الربانية في تراث الإمام حسن البنا من ناحية التوصيف والتكييف والتنزيل والتطبيق.

وأوضح أن البنا قد قطع شوطا مباركا في هذه الزاوية وتجاوز مرحلة الرصد والسرد والجرد إلى مرحلة التطبيق العملي والإفادة الحقة؛ فانتقل بالسنن من مرحلة الوعي إلى مرحلة السعي، بل إلى مرحلة تكوين جيل من الدعاة تربوا على هذه المعاني السننية القرآنية الثابتة، ولعل هذا الوعي بالسنن أحد أسباب استمرار المشروع الإسلامي للشيخ البنا واستقراره على كثرة ما تعرض له  من هجمات منظمة وممولة عبر السنين والأقطار.

وتناول البحث روافد التكوين السنني لدى الشيخ البنا والسنن الربانية بين المسطور والمنظور وموقفه من هذا التزاوج ثم بيان  عناية  الإمام البنا بعلم السنن ومنهجية التعامل معها في نظره ثم ضرب نماذج تطبيقية من علم السنن لديه.

وفي المبحث الثاني، تناول الباحث السنن الربانية بين المسطور والمنظور وموقف الإمام البنا من هذا التزاوج، موضحا أن الشيخ تعامل مع القرآن الكريم بأدوات فهم القرآن الكريم وتعامل مع العلوم الكونية بأدوات فهمها.

ومن وعيه بالتناسق بين المسطور والمنظور رده كل هذا إلى القوة القاهرة والإرادة الربانية الواحدة، فـ (كل ما في الكون ينبئك بوجود حكمة عالية و إرادة سامية و سيطرة قوية ونواميس في غاية الدقة و الإحكام يسير عليها هذا الوجود و رب هذه الحكمة و صاحب هذه العظمة و واضع هذه النواميس هو : الله)

وتكلم في المبحث الثالث عن عناية البنا بعلم السنن ومنهجية التعامل معها في نظره، مبرهنا على أن “البنا” كان من هؤلاء الذين وعَوا علم السنن درسا وتطبيقا، فبدا من خلال مشروعه الفكري والإصلاحي وعيه بالسنن الربانية وعيا حمله على الإفادة منها وإخبار تلامذته بها تربيتهم عليها وحديثه الصريح الفصيح عن ملامحها وسماتها.

ومن هنا يقول الإمام البنا رحمه الله فيما يشبه الاختزالات العميقة للتجارب البشرية: (لا  تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد).

نماذج تطبيقية

وفي المبحث الرابع عرض الباحث لنماذج تطبيقية من علم السنن لدى الإمام المجدد، فاختلاف الناس سنة من سنن الله تعالى، وقد وعى الأستاذ البنا رحمه الله هذه السنة وأفاد منها في دعوته بصورة لافتة، تجد هذا واضحا وهو يقسم الناس إلى أصناف ويبين نظرة كل صنف منهم إلى دعوته بل يبين كيف يتعامل مع كل صنف على حدة فيقول: (و كل الذي نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحدا من أربعة :مؤمن، متردد، نفعي، متحامل)

ويتعامل الشيخ مع الدعوات المختلفة على أساس التعاون والتكامل سعيا إلى سنة الله في الاختلاف والمختلفين ويضع الجميع على ميزان الشريعة، فما وافقها قبل وما خالفها رفض، ويبين أن (موقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرقت القلوب و بلبلت الأفكار أن نزنها بميزان دعوتنا، فما وافقها فمرحبا به و ما خالفها فنحن براء منه و نحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءا صالحا من أية دعوة إلا ألمت به و أشارت إليه). وفي هذا النص بيان لوقوع الاختلاف ومنهجية التعامل معه بصورة عملية منطقية.

والمتتبع لتراث الأستاذ البنا رحمه الله يدرك تماما وعيه بالسنن وتنزيله لها بصورة لافتة للنظر كأنه يقرأ من كتاب، كما يبدو فقه التنزيل للآيات لديه واضحا كأن الآية تتمكن من المعنى تمكنا وتتركب عليه تركيبا، فهو يشرح لأتباعه في كتاب الرسائل أن خفوق الأمة الذي تعيشه ليس إلى دوام بل إلى زوال وتغير، فالقوي لا يبقى قويا أبد الدهر والضعيف لا يظل ضعيفا أبد الآبدين، فتتغير القوى وتتبدل الإمكانات حسب سنن الله في الأنفس والآفاق، (لهذا لسنا يائسين أبدا وآيات الله تبارك و تعالى و أحاديث رسوله صلى الله عليه و سلم وسنته تعالى في تربية الأمم وإنهاض الشعوب بعد أن تشرف على الفناء و ما قصه علينا في كتابه كل ذلك ينادينا بالأمل الواسع ويرشدنا إلى طريق النهوض. و لقد علم المسلون – لو يتعلمون- و إنك لتقرأ الآية الكريمة في أول سورة القصص: (طسم. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ).

ثم يتابع الأستاذ المجدد وضع التوصيف الحق والأدوات التي يقوم عليها النهوض والتقتدم ويصوغها في ثلاث نقاط: المنهاج الصحيح والعاملين المؤمنين، والقيادة الحازمة الموثوق بها.

قانون التغيير

وتحت عنوان سنة الله في التغيير يتناول أيضا سنة الله في التغيير ويسميها قانونا فيقول: ( هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا) “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”.

وتتبع الشيخ البنا بعض أسباب هلاك الأمم، مثل وهن النفوس وغياب الأخلاق والرفاهية المقعدة والترف المطغي والافتتان بزهرة الحياة الدنيا (أولست تراه قد بين أن سبب ضعف الأمم و ذلة الشعوب وهن نفوسها و ضعف قلوبها و خلاء أفئدتها من الأخلاق الفاضلة و صفات الرجولة الصحيحة و إن كثر عددها و زادت خيراتها و ثمراتها)

ومن السنن التي تناولها الشيخ رحمه الله: سنة الله في نهضات الأمم، وهي سنة ثابتة عبر الأجيال وتأخذ أطوارا أشبه بأطور الإنسان الفرد من ضعف إلى قوة ومن قوة إلى ضعف، وتتبع هذه السنة يعطي الأمل للأمم المغلوبة المقهورة على أمرها؛ فالقوي لا يظل قويا أبد الدهر ولا الضعيف لا يستمر ضعيفا أبد الدهر.

ومن أهم السنن التي تناولها الأستاذ البنا رحمه الله تعالى سنن الله عز وجل في الدعوات، وهي سنن جارية مضت على دعوات الأنبياء والمرسلين وتمضي على كل الدعوات فيبين أن القائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة، وسواء كان هذا القائد رسولا نبيا أو كان قائدا من عموم الناس، وكم أوصى الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم بإخوانه حتى عاتبه فيهم، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة ، وإحكام خططها.

ويبين الأستاذ المجدد رحمه الله أن التقدم والتأخر في الدعوات لا يغني عن المرء شيئا ما لم يكن له من الوعي بدعوته والصدق في نيته الحظ الأوفر فهو مقدم ما عمل بمنهاج الإسلام ومؤخر ما تراخت يده عنه، وإن تصدر المجالس واعتلى المنابر.

وتحدث البنا أيضا عن سنة الله في القِلة، وحاول أن يفيد منها في بناء جماعته، (يسهل علي كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالا باللسان ، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلا من هذا الكثير يثبت عند العمل)

بهذا وقف الباحث على عدد من الروافد التي أعانت على تشكيل فكر الأستاذ البنا وصقله بصورة نافعة ومنهجية الشيخ في التعامل مع السنن الربانية من المغالبة وعدم المصادمة ومن التحويل والاستعمال وترقب ساعة النصر، وقد غني تراثه بعدد من السنن الربانية وسعى في تفعيلها وتطبيقها في واقع الناس عبر حركته التي أسسها فانتشرت في ربوع العالم انتشار الماء في العروق .

والشيخ رحمه الله كان مستوعبا لهذه السنن على مستوى الوعي والإدراك وعلى مستوى التعامل والتوظيف وهذا سبب من أسباب إمامته وتقدمه.