عقيدة المستبدين كما فى رواية “1984”

- ‎فيمقالات

تعد رواية «1984» وثيقة أدبية تجسدت فيها -بوضوح- عقائدُ المستبدين، وقد استشرفت ممارسات الديكتاتورية المقيتة التى نعيش أجواءها الآن؛ ما فرض عليها المنع فى كثير من بلادنا العربية التعيسة؛ رغم احتلالها -عالميًّا- على مدى سنوات لموقع متقدم فى قائمة «الأكثر قراءة».

الرواية كتبها الصحفى والروائى الإنجليزى جورج أورويل عام 1948، ووضع لها هذا العنوان «1984» ورتب عليه الأحداث؛ متخيلًا حال العالم فى هذه السنة؛ حيث تنبأ بتقسيمه إلى ثلاث دول عظمى هى: «أوشانيا» -بريطانيا وما حولها-، «أوراسيا»، «إستاسيا». أما أحداث الرواية فقد جرت فى «أوشانيا» بلد البطل «ونستون سميث» التى تدين بـ«الاشتراكية»، وسلطتها ممثلة فى «الحزب» الذى يتزعمه «الأخ الأكبر»، وهو يدار من خلال أربع وزارات هى: وزارة الحب المختصة بالتعذيب والقتل؛ ووزارة الحقيقة المختصة بالتزييف والكذب؛ ووزارة السلم المختصة بالحرب؛ ووزارة الرخاء المختصة بالتجويع وتوفير السلع الرديئة. إضافة إلى «شرطة الفكر».

وقد نجح «أورويل» -وهو على بُعد سبعين سنة منا- فى وصف الأنظمة المستبدة وصفًّا دقيقًا للغاية كأنه كتب روايته هذا العام؛ إذ من خلال الحوارات والأحداث أكد أنها تسعى إلى دوام حكمها ولو فنى الجميع، بانتهاج أعمال الإرهاب والتعذيب، والكذب والتدليس؛ للوصول بالمواطن إلى حالة تصرفه بالكلية عن التفكير فى السياسة أو الحكم. وجسَّد «أورويل» حالة مواطن «أوشانيا» الشمولية بأنه: خائف، مذعور، مرتعش، لا يتكلم فضلاً عن أن يبدى رأيًا، وقد استكان راضيًا بحاله البئيس، بل صار يهتف بحياة من أوصلوه إلى تلك الحال!

وأكد «أورويل» أن لكل نظام مستبد زعيمًا يحوطه الغموض والخصوصية، وهو فى روايته «الأخ الأكبر» رئيس الحزب، الذى تنتشر صوره فى كل مكان، وتعلو كل البنايات، لا يتغير حجمها ولا لونها، وينظر دائمًا إلى المارة بعينين مرعبتين حتى صار فى نظر العامة مثل إله معصوم، أما متى ولد، وأين يقيم، وما طوله فلا أحد يعلم عن ذلك شيئًا، إنما الحزب وقادته ووزاراته الأربع يسيرون بتعليماته وهم جميعًا رهن إشارته.

وفى النظم المستبدة -كما فى «أوشانيا»- ليس هناك مصانع منتجة، ولا مناطق تجارية، بل هناك سجون فى كل مكان، ومعسكرات للخدمة، وملاجئ للأطفال اليتامى، أما مدن هذه النظم فمثل لندن «الحقيرة» -كما يصفها «أورويل»؛ فهى عبارة عن مغارات وكهوف، وأزقة قذرة، وبيوت متهالكة يعلوها البؤس والخراب كما يعلوها التراب، ليس فيها أثر لحياة، سكانها كأنهم أشباح بسبب سوء التغذية، أو كأنهم من فصائل أخرى من الأحياء؛ لما بدا عليهم من الذعر والهزال. أما المحلات فهى خاوية، تبيع الأشياء القديمة والتافهة، وتكتفى بنوع أو اثنين من السلع الاستهلاكية الرديئة التى فرضها الحزب على المواطنين. الأماكن الوحيدة المكتظة هى الحانات، وروادها من أشباه البشر، هياكل عظمية متحركة، قهرهم المرض، وبدا على وجوههم أعراض إدمان نوع الخمر الوحيد الذى فرضه الحزب أيضًا باسم «الجن»؛ فما أكثر من يسقط منهم على الأرض داخل الحانة أو خارجها.

والمواطن فى النظم المستبدة –كما فى «أوشانيا»- لم يصل إلى تلك الحال من العوز والقهر إلا لما تعرض له من ملاحقة الشموليين؛ حيث تتم مراقبته على مدار الساعة بما يُعرف بـ«اللواقط» التى كانوا يزرعونها فى كل مكان. ولكى يصرفوا المواطنين عن الحكم شغلوهم بالمعاش القاسى والبؤس الحياتى، وباختلاق الحروب الخارجية التى كانت تُتخذ قرارات خوضها دون علم المواطن حتى أنه لم يعد يعرف من عدو بلده، فاليوم تقاتل أوشانيا أوراسيا وغدًا تقاتل إستاسيا، ومطلوب منه فقط أن يؤيد بلده «أوشانيا» وأن يهتف لزعيمها «الأخ الأكبر» ولحزبها وقادته. كما لجئوا إلى خلق «عدو» افتراضى داخلى، وهو فى الرواية «جولد شتاين» زعيم الحزب السابق، المخفى، وعلى الجماهير أن تنشغل -يوميًّا- بما يأتيها من أخبار القبض على أتباعه وإعدامهم فى الميادين العامة. فضلاً عن إلهاء الجماهير بما يستميلها من مواد إباحية وألعاب شعبية وغيرها.

وفى حين يئن المواطنون تحت وطأة الجوع والمرض وشح الكساء وانعدام الملاذّ المعتادة -حيث قصروا الزواج مثلًا على الإنجاب فقط مجردًا من العاطفة- فإن قادة الحزب يحيون عيشة الملوك؛ فمنزل «أوبراين» شبيه بالقصر، به الخدم والخمرة الفاخرة والوسائد والرياش. حتى مؤسساتهم العامة وأماكن شغلهم كانت ناطحات سحاب قياسًا على بيوت لندن المتقزمة؛ فالوزارات محصنة ضد القنابل التى كانت تسقط بالأطنان على الأحياء الفقيرة فتقتل المئات كل يوم، وهى مضاءة بأنوار تبهر العيون، وعليها طلاء كأنه وضع عليها اليوم.

وعصابات المستبدين عادة تستعين بـ«المنتفعين» الذين يلهثون وراء السلطة وشىء من الجاه، لكنهم يدفعون الثمن غاليًا. وهؤلاء المنتفعون غالبًا ما يتم الإتيان بهم من السجون أو الملاجئ -مثل ونستون بطل الرواية- كى تكتمل سيطرة المستبد عليهم، الذى لا يدعهم لحظة يفكرون فى النظر لأعلى أو فى إصلاح فساد أو إفشاء سر؛ فهم لا يتحركون ساعة بعيدًا عن «الستار الناقل: شاشة تليفزيونية -تلسكرين» الذى ينقل حركاتهم وسكناتهم على الهواء مباشرة لرؤسائهم، وقد غُسلت أمخاخهم بحيث لا ينطقون إلا بما يمليه عليهم الحزب؛ فمجموع (2 + 2) يساوى خمسة، وقد اختزلوا اللغة اختزالاً حتى لم يعد موجودًا فيها ما يُعرف بألفاظ الحرية أو الديمقراطية إلخ، وأمروهم بأن يربوا أبناءهم على هذه الطريقة من الخضوع للحزب، فصار الأبناء يعملون جواسيس على الزملاء والجيران، وللأب أن يتفاخر بالعدد الذى دفعه ابنه إلى الإعدام أو السجن، مثل «بارسونز» الذى ربى ابنيه على هذا الشذوذ حتى وشيا به مؤخرًا وأدخلاه الغرفة «101» التى بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من أدوات ووسائل التعذيب.

أما عندما يفكر أحد هؤلاء فى الإصلاح؛ فهو عرضة لما قاساه «ونستون» -الذى كان يعمل مزيفًا للأخبار فى وزارة الحقيقة- على يد الحزب؛ حيث يدور جزء كبير من أحداث الرواية حول هذه النقطة؛ إذ لما فكر فى التغيير وتوسم فى بعض زملائه الرغبة فى ذلك، فوجئ بتورطه؛ إذ اكتشف أن «أوبراين» مجرم كبير، وهو من تولى تعذيبه حتى كاد يهلك، وليس كما ادعى أنه أحد الأعضاء «الأخوة الثورية» المعادية للحزب، و«شارنجتون» -ذلك الكهل الذى استأجر منه غرفة ليلتقى فيها مع «جوليا» التى وافقته على هذا التغيير- يشغل منصبًا كبيرًا فى الحزب، وقد رآه شخصًا آخر عند القبض عليه، شابًّا ليس كهلاً كما اعتاد رؤيته، سليطًا غير ودود كما عهده على مدى شهور.

ولم يترك «أورويل» القارئ دون أن يحضه على التغيير، رغم ما استنفده فى وصف عقائد ووسائل المستبدين، وآثار ديكتاتوريتهم؛ فيظل «ونستون» -أثناء ما عُرف ببرنامج علاجه القائم على غسيل مخه بالإرهاب والتعذيب- يجادل «أوبراين» فيما يسلكه الحزب من طرق الحكم الإرهابية؛ مؤكدًا أنهم لن يطول بهم مقام، ورغم أن «أوبراين» يسأله: هل تؤمن بإله؟ فيجيبه: لا، أنا ملحد، فيقول له: ولِمَ هذا اليقين رغم أنك لا تؤمن بإله؟ يقول: لأن حركة الكون والتاريخ تنطقان بسقوط المستبدين.